Accueilالاولىصحفشلاط تونس» بين متاهات الروائي والوثائقي »

شلاط تونس» بين متاهات الروائي والوثائقي »

أين ينتهي الواقعي ويبدأ التخييل؟ أيّ من تلك الأحداث حقيقي وأيها من وحي الخيال؟! هؤلاء البشر أمامنا على الشاشة مَنْ منهم الممثلون الذين يؤدون أدواراً، ومَنْ منهم بشر حقيقيون؟ هذا المزج الهارموني البالغ حد الالتباس المدهش إحدى أهم جماليات فيلم «شلاط تونس» للمخرجة كوثر بن هنية لأنه مرتبط بمهارتها الأسلوبية في إيهام المتفرج وإقناعه بأن ما يقدم وثائقي على رغم أنه ليس كذلك طوال الوقت، وهو أمر لا يرتبط فقط بالشكل وإنما أيضاً بالمضمون الوجداني والفكري كله. ميزة أخرى: يبدو الفيلم، ظاهرياً، وكأنه رحلة بحث عن الشلاط، ذلك الرجل المجهول الذي كان يتجوّل على دراجته في شوارع تونس عام 2003 ويضرب النساء اللائي يمشين على أرصفة المدينة بشفرة سكين على أردافهن، لكنه في جوهره بحث عما وراء الشلاط ودوافعه النفسية من خلال تفكيك عقلية تلك الشخصية والبنية الفكرية للمجتمع لمعرفة لماذا حدث هذا؟ وما عواقب ذلك على ضحاياه؟ فاختيار واقعة الشلاط ما هي إلا تكأة لمساءلة الواقع التونسي مجتمعياً وسياسياً، للكشف عن أوضاع المرأة فيه، وعلاقتها بالرجل، وكيف يفكر فيها رجل الشارع، ورجل الدين، ورجل الشرطة؟ وماذا يريدون منها؟ إنه تنقيب في عالم الرجل في محاولة لفهم خلفيات كل هذا الكره والعنف الموجه ضد المرأة؟

 

النفي المتواري

يبدأ الفيلم من خبر بثته الإذاعة التونسية عام 2003 يقول: «تمكنت قوات الأمن من إلقاء القبض على الشلاط بعد أن بلغ عدد ضحاياه 11، فقد أولى الرئيس بن علي أهمية قصوى لتلك القضية، ما يُثمّن عنايته باستتباب الأمن وملاحقة كل من تسوّل له نفسه المساس بذاك الأمن». مباشرة بعد سماع ذلك الخبر، والإظلام التام للشاشة، تحملنا كاميرا بن هنية خلف كتف أحد «الشلاطين» على دراجته البخارية يطوف الشوارع. وعندما يقترب من الضحية الجديدة امرأة شابة ممشوقة القوام يرفع سلاحه ويضربها بالسكين على ردفها، فيدوي صدى صرختها القوية عالياً، وتتناثر الدماء لتُلطخ الشاشة. يعقب ذلك مشهد للمخرجة ومصورها – بكاميرا مهتزة – يصلان إلى السجن المدني في مرناق بحثاً عن الشلاط بعد عشر سنوات، لكن حارس السجن يمنعهما من التصوير نافياً معرفته بوجوده من عدمه، مؤكداً أن للحبس أسراره، وينتهي الأمر بالاشتباك اللفظي معه بعد أن اختطف الكاميرا منهما

ترتيب المشاهد الثلاثة السابقة يحمل سخرية مواربة، ونفي، بطريقة فنية ذكية، لمزاعم القبض على الشلاط، لأن تقديم مشهد تشليط جديد هو بمثابة تكذيب للخبر ضمنياً، فحتى لو كان الشلاط صاحب الحادثة الشهيرة قد اختفى وهو ما لم تثبت صحته أو خطأه، فهناك شلاطون آخرون – لا يستخدمون السكين أو الشفرة – لا يزالون يجرحون النساء ويُؤذونهن بكلماتهم وأفكارهم ونظراتهم. ثم يأتي كلام حارس السجن ليُثير مزيداً من الشكوك حول هوية الشلاط وهل حقاً تم القبض عليه، أم أنه كان مجرد لعبة سياسية لبث الذعر بين الناس وإلهائهم كما حدث في بلدان أخرى كمصر وسورية؟ وهي تساؤلات تصلنا نتف من الإجابات عنها – ضمناً أو تصريحاً – قبل أن تأتينا الإجابة الحاسمة في اللقطة الختامية

يعقب ذلك مشهد لإحدى ضحايا الشلاط بزي البحر على الشاطئ تحكي عن تجربتها المؤلمة وترينا مكان الجرح، فتتركها المخرجة وتنتقل إلى أحد المقاهي لتعلق إعلاناً تطلب فيه من الشلاط أن يتصل بها، وذلك بعد أن قادتها تحرياتها إلى أنه شخصية حقيقية لا تزال تعيش في حي الزهور. وتُجري المخرجة حواراً مع الرجال في المقهى عن رأيهم بتلك الجريمة فيؤكدون أن المرأة التي لا ترتدي ملابس محترمة تستحق التشليط والاغتصاب. هنا تعود المخرجة الى الضحية السابقة التي تفاجئنا باعترافها بأنها لا تعمل وغير مستقلة مالياً، وزوجها يعاملها مثل قطعة اكسسوار، وأنها هي مَنْ قامت بتشليط نفسها حتى ترسم ذلك الوشم – تحت هوس الموضة – والذي كان زوجها يرفضه

هكذا، ومنذ الدقيقة التاسعة للشريط السينمائي – طوله 89 ق – تغرس المخرجة في ذهن المتفرج أن بعض الضحايا لم يكن ضحايا فعلات للشلاط، وأن الشلاط نفسه تحول إلى ضحية يُحمّلها الآخرون أكاذيبهم. فالبعض استغل الفكرة لتنفيذ رغبات كما في الضحية الموشومة، أو تبرير موت أو انتحار كما في حكاية زهرة التي ضُبطت وهي تسرق، وهو الأمر الذي قد يبدو نقطة إدانة ضد المرأة، لكنه حقيقة. ومن زاوية أخرى، إلى جانب بثه الثقة في نفس المتلقي بحيادية المخرجة ونفي انحيازها الى بنات جنسها فهو يكشف عن وعيها العميق إذ يطرح مشاكل مجتمعية تعانيها النساء، ويشي ولو مواربة بدور الإشاعات في صُنع الأساطير

 

وثائقي مزيف

الفيلم يمكن اعتباره شريطاً سينمائياً عابراً للنوعية، إذ يدور بنا جمالياً في متاهات الخيال والتوثيق، ليس مجرد فيلم داخل فيلم كما فعل يوسف شاهين في عمله المتميز «القاهرة منورة بأهلها» 1991، لأن ذلك الأسلوب قد يحدث على المستوى الروائي الخالص، لكن «شلاط تونس» روائي مُطعم بلقطات وشخصيات وثائقية، بلقاءات كثيرة في المنزل والشارع والمقهى والاستوديو لا تخلو من سخرية وكوميديا سوداء، إلى جانب كونه ينهض على واقعة حدثت في تونس عام 2003 لكن ذلك ليس مبرراً جوهرياً لنجاح الفيلم وقوته، فكم من أفلام صُدِّرَت بجملة «مقتبس عن قصة حقيقية» لكنها أتت ضعيفة باهتة غير قادرة على جذب المتلقي واكتساب صدقيته وتجاوبه. وكم من أعمال خيالية لم تستند الى أي حقائق لكنها جاءت واقعية أكثر من الواقع المُعاش نفسه… فالقضية لا تكمن في كون العمل حقيقياً أو تخييلياً، وثائقياً أو روائياً، إنما تكمن في الأسلوب المناسب لتناول الأفكار والأحداث والشخصيات، تكمن في تلك العلاقة والحبل السري بين الشكل والمضمون، وما تتطلبه من معالجة درامية تراعي الجوانب الجمالية

بتعبير آخر يمكن اعتبار «شلاط تونس» فيلماً وثائقياً مزيفاً fake documentary، لأنه روائي يرتدي ثوب الوثائقي، أو يزعم بطريقة فنية مُحكمة أنه وثائقي، ففي أجزاء كثيرة يُوهَم المتلقي بأنه وثائقي بينما هو روائي. صحيح توجد لقطات وحوارات لأناس حقيقيين بتعبيرات وجوههم وأفكارهم وردود أفعالهم التلقائية المباشرة المُدهشة، لكنّ هناك أيضاً ممثلين هواة وغير معروفين، وربما نشاهدهم للمرة الأولى كممثلين، ما منح الفيلم مزيداً من صدقية الوثائقي

وصحيح أن بطله جلال دريدي المتهم الأول في قضية الشلاط شخصية حقيقية، إضافة إلى المحامي، ورجل الدين، واثنتين من الضحايا نجحت كوثر في الوصول إليهما وإقناعهما بالحكي عن تجربتهما ومشاعرهما، لكن هناك أيضاً شخصيات خيالية مخترعة، وكان لزاماً على المخرجة أن تقوم بكاستينغ لاختيار الشخصيات التي ستجسد هذه الأدوار. على جانب آخر، رغم أن جلال يحكي عما حدث له ومعه وبعض ما ارتكبه، ويبوح بأفكاره تحت ضغط وإلحاح تساؤلات المخرجة، لكنه أيضاً في لحظات أخرى يُجسد مشاهد تخييلية كتبتها بن هنية

طوال الفيلم تغرس المخرجة تفاصيل تبدو تلقائية تنحاز الى وثائقية الفيلم، خصوصاً تلك التفاصيل التي تشير الى وجود الكاميرا والتصوير وموقف بعض الشخصيات المتذمر من وجودها بين حين وآخر، إلى جانب ظهور صوت المخرجة من خارج الكادر أو داخله تتحدث الى الناس عن فيلمها الوثائقي الذي تعد له، وغرسها لأسئلة وثائقية في قلب المشهد التخييلي، أو بذر لمحات روائية في قلب الوثائقي، كما في مشهد مروان وحديثه مع أحد الشيوخ في محاولة للحصول على فتوى تُبيح وتُحلل لعبة التشليط التي يقدمها في مقهى النت الذي افتتحه وصار يمارسها الشباب والمراهقون على اعتبار أنها تحض على الفضيلة، خصوصاً أنها لا تشلط المحجبات ولكن المتبرجات فقط. ومثل لقطة المشاجرة – في لقطة واسعة جداً – بين جلال وخطيبته من دون أن نسمع ما يقولانه بعد اكتشافها جهاز كشف العذرية. وفي المقهى عندما يدخل إلى الكادر رجل شعبي – كأنه بتوجيه المخرجة يلعب دور المادة المحفزة للوسط – فيُؤكد كلام الآخرين في شكل أكثر وضوحاً وقوة: «أنا رجل وعندي غرائز فلما أغتصبها محدش يلومني». فالمَشَاهد ليست وثائقية تماماً ولا روائية خالصة، هجين يصعب فصله، وحالة من المد والجزر تتلاشى معها الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال

أتاحت تكأة الوثائقي للمخرجة أن تحصل على ردود فعل موسومة بالبكارة كان من الصعب الحصول عليها في ظِل التمثيل، وأتاحت لها إمكانية بث عنصر محفز في الوسط الحقيقي ليستفز الناس ويجعلهم ينطقون ويعبرون عن مكنون أعماقهم. كما أن تصدير الأسلوب الوثائقي برر الانتقال السريع بين حوارات الشخصيات المتقدمة للكاستنغ – ما احتفظ للإيقاع بتوازنه – وفي الوقت نفسه كان بمثابة عملية تنقيب في عقول الرجال بمحاصرتهم بمزيد من الأسئلة: لماذا قد يلجأون الى التشليط عندما لا تستجيب لهم المرأة؟ لماذا التشليط على الأرداف وليس على الوجه؟ ولماذا يستخدمون الثوم على السكين؟

على صعيد آخر، أتاح الأسلوب الروائي لصاحبة «يد اللوح» و«الأئمة يذهبون للمساجد» تعميق رؤيتها وربط كثير من الأمور لتظهر صورة عامة لا ينفصل فيها الشخصي عن العام ولا الاجتماعي عن السياسي، ما ساعدها على رفع النقاب عن الكثير من الحقائق، وكشف بعضاً من خبايا مجتمع تنتهكه العقلية الذكورية، رغم أن تونس كانت ذات يوم من أكثر الدولة العربية تقدماً في منح المرأة حقوقها

                         امل الجمل…موقع الحياة


 

Jamel Arfaoui
Présentation
مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة