Accueilالاولىالكاتب جورج عيسى يكشف عن وجوه راشد الغنوشي

الكاتب جورج عيسى يكشف عن وجوه راشد الغنوشي

لم يَسر المؤتمر العاشر الذي عقدته حركة النهضة في تونس، على السكة الاعتيادية التي يسلكها قطار الأحزاب الإسلامية بشكل عام. فالمؤتمر الذي انطلقت أعماله في العشرين من هذا الشهر، صدّق على اللوائح المعروضة عليه، وأهمها الفصل بين العمل السياسي والعمل الدعوي. خطوة نوعيّة كان بإمكانها أن تعني الكثير لولا تصريحات رئيس الحركة راشد الغنوشي التي تفضح سلسلة تناقضات ومراوغات.

في الأساس، لا يعاب على أي حزب أو زعيم سياسي إجراء قراءة نقدية لأفكاره وأعماله، لا بل يعدّ الأمر من صلب الحياة السياسية. لكن يشترط أن تكون المواقف الجديدة مبنية على مبرّرات فكريّة جدّية، ومراجعات عميقة شاملة، والأهم استخدام لغة واحدة واضحة تعبّر عن الرؤى الجديدة بدون مواربة أو ازدواج أو تناقض.

الرئيس الأبدي للنهضة
وفي أي حال، كان ثمة شبه اقتناع بين المراقبين خارج تونس كما في داخلها، بأن المؤتمر العاشر للنهضة سيكرس الغنوشي الذي يبلغ الخامسة والسبعين من العمر في 22 جوان المقبل، رئيساً أبدياً للحركة، خلافاُ لما يحاول كل من وسائل الإعلام الغربية التي تمالق الإسلام السياسي ومسؤولون إسلاميون تونسيون، تسويقه بين الرأي العام بديموقراطية حقيقية داخل ماكينة اتخاذ القرار في النهضة و”نقاش حر” و”تداول للسلطة” على رأس الحركة، وتحديداً في شأن المسألة الخيالية المتعلقة “بالفصل بين الدعوي والبعد السياسي”.

ومع هذه الولاية الجديدة على رأس النهضة، يبدأ الغنوشي سنته الـ 37 بلا انقطاع في سدة قيادة الحركة الإسلامية صار خلالها وصياً على إسلام سياسي متشدد. فكان في آن فقيهاً يجمع الزعامة السياسية والروحية وتحول نوعاً من المجرة المدارية يدور حولها بلا كلل نظام سياسي- ديني تحت بهرجة مدنية.

وبعد ثورة الياسمين التي انطلقت في 17 ديسمبر  2010 وفوز النهضة المثير للجدل في أكتوبر 2011 ، طوّب الغنوشي نفسه مرجعية أساسية في الحياة السياسية في تونس.

كانت كلماته دائماً منتقاة بعناية ليتقبلها الغربيون بسلاسة ويتفاعلوا مع طروحاته الداخلية والخارجية بطريقة إيجابية. تحدّث كثيراً عن الديموقراطية والتوافق وحقوق المرأة ومحاربة الإرهاب ومواجهة التضليل الذي يتعرض له التكفيريون.

وفي مقالة كتبها في مجلة التايم الأمريكية في جانفي من هذه السنة، رأى أنّ التطور الذي تشهده تونس “يؤمّن أفضل إجابة على ادّعاءات المجموعات المتطرفة بأنّ الإسلام والديموقراطية متنافران”. وأضاف أيضاً أنّ خطّه السياسي حظي بالأكثرية “لكنّنا أدركنا أنّ بناء ديموقراطية قوية يتطلب أكثر من حكم الأكثرية – هي تتطلب توافقاً حول المبادئ الأساسية”. وأوضح أنّ “الاستقرار يتطلب المصالحة بين الجماعات المستقطبة من خلال الحوار والتعايش بين مختلف مكوّنات المجتمع”.

تركيز على التجربة التونسية
وفي مقابلة مع مجلة أتلانتيك الأمريكية في الأوّل من فيفري  ركّز على التجربة التونسية لناحية اعتبار انتقالها الديموقراطي الأكثر نجاحاً للخروج من الانتفاضات العربية. وفي ذلك، رأى أن هذه التجربة تثبت أنّ هناك خياراً أفضل من ذاك “الخيار الزائف بين الديكتاتورية والتطرف” الذي يقدمه داعش، إذ إنّ “مكافحة تنظيم داعش ليست فقط معركة ضدّ شيء ما بل معركة من أجل شيء ما”. ومن هنا أعاد التركيز على أهمية مسائل الديموقراطية والمساواة وعدم الاقصاء الاقتصادي أو الاجتماعي.

وتستمر المثاليات مع لوموند
وسلكت لغة الغنوشي مستويات جديدة في مخاطبة الغرب، خصوصاً خلال مقابلته مع صحيفة لوموند الفرنسية في التاسع عشر من الشهر الحالي حيث أكد ضرورة التمييز بين النشاط السياسي والنشاط الديني. وقال: “لا نريد أن يكون إمام مسجد ما قائداً سياسياً، بل لا نريد أن يكون عضواً حتى في أيّ حزب كان. نريد حزباً يتناول المشكلات اليومية ويناقش حياة الأسر والأشخاص، لا حزباً نتحدّث فيه إلى هؤلاء الأشخاص والأسر والعائلات عن يوم الآخرة والجنة”. ومن تبريرات ذلك بحسب قوله أنّه سيصبّ “في مصلحة السياسة حيث سنتفادى اتهامها باستغلال الدين لأغراض سياسية، كما سيكون ذلك في مصلحة الدين الذي لن يبقى رهينة السياسة أو محتكراً من طرفها”.

وفي ردّ على سؤال مرتبط أجاب: “نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديموقراطية الإسلامية. فنحن مسلمون ديموقراطيون ولم نعد ندعو إلى الإسلام السياسي”.

هل تتبدل مواقفه داخلياً؟
وفي كلمة له أمام المؤتمر العاشر قال غنوشي: “إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة وعن التوظيف الحزبي حتى تكون المساجد جامعة لا مفرقة”. وبذلك كان رئيس حزب النهضة منسجماً مع قناعاته ومواقفه المعلنة أمام الغرب. أو هذا ما بدا …

إذ لم يدم الانتظار طويلاً حتى أضاف في الكلمة نفسها: “نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة الوطنية رغم أنّ زعماء الحركة الوطنية تاريخياً كانوا متشبثين بديننا الإسلامي الحنيف”.

إذاً كيف يوفق الغنوشي بين خروجه من الإسلام السياسي واستغرابه من إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة الوطنية؟

عملية سطو على الأفكار
ولم تفوت الناشطة التونسية في حقوق الإنسان نزيهة رجيبة التعليق على “الخطاب الكبير” للغنوشي، مقارنة بين ما جاء فيه وبين خطاب الرئيس السابق زين العابدين بن علي في استلهام أفكار النخبة والاستحواذ عليها. ورأت في الخطاب “عدا بعض الحشو والتمطيط وفضول القول واستعراض البلاغة لتسخين القاعة والاعلام، كان عمليّة سطو على كلّ الأفكار والمطالب التّي حاربنا بسببها وكفّرنا من أجلها يوم رفعناها في وجهه في زمن الترويكا وهو في أوج وهم التّمكين”.

وذكرت بأنه في نوفمبر  1987 “فعل بن علي الشّيء نفسه، إذ سطا على جميع أفكار ومشاريع النّخبة الديمقراطية التي كان يحاربها… وحشا بها بيانه الكذوب”. واعتبرت أن “العيب ليس في الغنّوشي ولا في بن علي بقدر ما هو في نخبة وقفت عند رفع الشّعارات وضلّت السّبيل إلى الاخذ بأسباب تحقيقها وحمايتها من السّطو والتّوظيف الماكر”.

كيف خلط المفاهيم؟
إلى ذلك، هنالك مفارقات وربّما مغالطات عديدة تطبع الموقف الأخير لرئيس حركة النهضة. أوّلها ينطلق من ربط غير مفهوم بين الدين والحياة العامة من جهة وبين دين زعماء الحركة الوطنية من جهة أخرى. فتشبّث هؤلاء بالدين الإسلامي الحنيف لا يعني بالضرورة إقحام الدين في الحياة العامة الوطنية. وإذا عنى هذا الأمر بالفعل، فلمَ كلّ تلك الضجة عن المؤتمر، بل لمَ المؤتمر من أساسه إن لم يكن لكسب المزيد من ودّ الغرب؟

لا يستغرب من نفسه
المفارقة الأولى تقود القارئ حكماً للحديث عن الثانية. ففي صحيفة لوموند الفرنسية ذكر الغنوشي أن “في المجال العمومي يطبق القانون”. من هنا، إذا كان يحق له استغراب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة الوطنية، فسيحقّ لآخرين، متتبِعين نفس المنطق، الاستغراب من إقصائه هو لتطبيق الدين في المجال العمومي أيضاً … إلّا إذا اعتبر الحياة العامة نقيضاً للحياة الوطنية!

نفي ما يجب أن يكون طبيعياً!
من ناحية ثالثة، وبالنسبة لحزب يخرج من عباءة الإسلام السياسي على حدّ تعبيره، يجد متابعون صعوبة في فهم مسارعة الغنوشي لتكذيب خبر خلافه مع رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي معتبراً في أكتوبر (تشريت الأول) الماضي أنّ علاقته به جيدة. والأمر نفسه ينطبق على نفي الغنوشي لخبر صدر عن صحيفة الحياة الجديدة الفلسطينية يعرض لرسالة وجهها للإخوان المسلمين يؤكد فيها أن لحظة الفراق اقتربت. ومجدّداً، إن لم يكن الفصل بين النشاط السياسي والنشاط الديني فراقاً واقعياً أو فكرياً مع الإخوان، فما (أو الأصح من) الذي يمنعه من أن يكون كذلك؟

ألف وجه ووجه
تصيب خطابات الغنوشي متتبعيها بالدوار، بما فيها من الشيء ونقيضه في آن. فالرجل الذي يعتبره الأوروبيون والأمريكيون إسلامياً معتدلاً، يعرف في أعماقه أنه لن يتخلى يوماً عن لحيته السلفية المتشددة.

ومع ذلك، يقول مراقبون إن وصف الغنوشي بالكاذب أو المولع بالأكاذيب أو المزدوج الشخصية، ليس كلاماً دقيقاً ولا ينم عن معرفة حقيقية به. إنه في رأي البعض “سياسي متعدد اللغات”، لا بمعنى إتقانه لغات عدة، وإنما استخدامه بمهارة خطابات عدة وفقاً للأماكن والظروف والأحداث والجمهور. هو في رأي هؤلاء يملك قدرة غير عادرة على معالجة موضوع واحد بلغات عدة أو مواضيع عدة في خطاب واحد وفريد.

باختصار تبدو قدرة الغنوشي على “التحول” مذهلة. هو العروبي والناصري في مصر، والإسلامي المتشدد بعد سقوط الناصرية، قريب من البعث في سوريا، وتبليغي في الضواحي الباريسية وقذافي (مؤيد للقذافي) عام 1974 بعد توقيع اتفاقات جربة، ومعاد للقذافي بعد حملة القمع ضد الإخوان المسلمين، ومناصر لحسن الترابي وجعفر النميري خلال المحاكمة التي انتهت إلى إعدام المثقف والسياسي السوداني محمود طه، ومؤيد للانقلاب الذي الذي نفذه الجنرال الإسلامي عمر حسن أحمد البشير، وإسلامي نيوعثماني في أنقرة وصديق لرجب طيب أردوغان إلى درجة أنه نسب لنفسه انتصارات الرئيس التركي (يقول إن كتاباته المترجمة إلى التركية ألهمت النموذج السياسي الإسلامي الحاكم في تركيا).

اِختبارات مقبلة

أسئلة كثيرة ستواجه الغنوشي في قادم الأيام، وسينتظره امتحان صعب في إثبات صحّة ما يدّعيه من ابتعاد عن الفكر الإخواني بشكل عام (طبعاً إذا قلص أعداد بيانات النفي المثيرة للتساؤلات المشروعة). على صعيد آخر، سيواجه اختباراً عسيراً يقضي بالتخفيف من التناقضات الفاقعة بين أقواله في الداخل من جهة وأحاديثه إلى الخارج من جهة أخرى، أو حتى بين مواقفه نفسها أقلّه تجاه الداخل فقط.

الامتحان صعب والأجوبة المنتظرة منه … أصعب.

+++الكاتب – جورج عيسى  موقع 24

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة