Accueilالاولىالكاتب الليبي ابراهيم عثمونة : ما خلفه بورقيبة أقوى من أي زلزال...

الكاتب الليبي ابراهيم عثمونة : ما خلفه بورقيبة أقوى من أي زلزال قادم

لم يأخذوا منه الخرائط والأساسات بل وصفوا يومها خرائطه وأساساته بالرجعية، ووصفها القذافي حتى بالرجعية المتعفنة، ولم يلتفت هو لهم أو لم يكن لديه وقت ليلتفت. كان في سباق مع الزمن حتى لكأنه استشعر قرب 2011، فشرع يعمل في صمت وسرعة قبل حلول العام، والحقيقة التي لا ينكرها أحد أنه لم يكن في رأسه وجبهته الكبيرة خطابات رنانة كبيرة، بل كان فيها مواعيد محدده بتواريخ، ولا كانت نظرته المدببة مدببة لتحدد المكان القاتل بل كانت مدببة لتحدد مكان الإصابة، واليوم وبعد مضي عقود على تلك المشاريع التي صاحبت مشروعه، ها قد أتمر مشروعه وخابت مشاريعهم، ونجح هو وفشلوا هُم، وعاش وماتوا، حتى عبد الناصر الذي أختلف معه كثيراً لابد أنه اليوم يعتذر منه في مكان ما تحت الأرض، ويا سبحان الله كيف جرت الأقدار بمحاذاتنا نحن في ليبيا ولم نشعر بها، وكيف نشعر ونحن مشغولون بهتاف “مش تونس ولا كرينادا هذا شعب قوي عنادا” كنا طلبة في المدرسة الإعدادية ساعة يدخل علينا في الفصل أحد عناصر القذافي الثأرية ليقودنا خلفه نجوب شوارع قريتنا هاتفين بصوت عال “مش تونس ولا كرينادا…..”يومها قيل لنا أن بورقيبة حين تصله هتافاتنا الصغيرة كان فقط يبتسم لها، واليوم كم يُشعرنا ذلك بالخجل. كنا صغار السن ونحب من الرؤساء مَن يشبهون الرسوم المتحركة، وتجذبنا الأشياء الفضفاضة، ويلهبنا الكذب في هتافات، وكانوا هُم يعرفون ذلك جيداً فيكذبون بالهتافات علينا ويظهرون لنا على هيئة رسوم، ونحن نركض في مسيرات تهتف “مش تونس…” لم نشعر حينها أننا مقلوبين على رؤوسنا وأقدامنا بأحذيتها هي التي إلى أعلى، وكيف السبيل لنشعر والريح يومها في بلادي تدفعنا لنمشي على رؤوسنا.. كان شيئاً مخجلاً ومعيباً ومحزناً للغاية

الكل يمشي على رأسه. الطالب يمشي على رأسه إلى المدرسة، والعسكري على رأسه إلى معسكره، والممرضة في المستشفى تعمل على رأسها، وكبار السن يمشون إلى الجوامع على رؤوسهم، بل حتى شرطي المرور كان يقف ويُسيِّر حركة المرور في الشوارع على رأسه، وكانت فترة عصيبة ومرهقة جداً، حتى أن علامات الإرهاق بدت واضحة على وجوهنا دون كل العالم، فصرنا نصطف في طوابير طويلة أمام مصحات تونس العاصمة وصفاقس وسوسة على أمل أن نجد فيها طبيباً يطبب الارهاق، وحين يعجز الأطباء نتركهم ونذهب لنطبب ارهاقنا في حانات المدينة

أذكر أنني زرته، كان ذلك تقريباً في 2007، أو بالأحرى زرتُ منزله الواقع في العاصمة. طلبتُ من التاكسي زيارة قبر بورقيبة فقال لي مالك ومال قبره يا رجل، اذهب وزر داره “دار الزعيم” – أو “معقل الزعيم” كما هي معروفة هناك – ولم أخفي انزعجي من كلمة زعيم، شعرتُ أنها لا تليق بـ بورقيبة بعد أن أفرغ الرؤساء العرب هذه الصفة من محتواها حتى ما عادت تعني لي سوى الكذب والكلام الفارغ، لذلك تمنيتُ لو قال التاكسي “دار بورقيبة” وكفى، ومع ذلك أخذني لها وتركني هناك في “المدينة العربي” أو المدينة القديمة لأبقى حتى غروب الشمس، بعدها عُدتْ وفي داخلي شعور أن الرجال الكبار لا يخرجون إلا من الأوساط الكبيرة، وسألتُ جيران تلك الدار عن أصول بورقيبة وهل صحيح كما يشاع أن له جذور ليبية أم غير صحيح، ولم يفيدوني بشيء سوى أنه رجل عظيم عاش بينهم ووضع أساسات كانت أقوى من زلزال 2011، والحقيقة لم يقل لي يومها جيرانه “أساسات أقوى من زلزال 2011″ بل قالوا فقط ” أساسات قوية”، لكن تأكيدهم وتشديدهم على كلمة قوية أشعرني أنها أساسات ربما تكون أقوى من أي زلزال قادم

قبل خرجي من داره ملأتُ من هواء الدار زجاجات فارغة جلبتُها خصيصاً لهذا الغرض. وقف الجيران ينظرون لي باستغراب وكنتُ أملأ وأغلق الزجاجة جيداً وأضعها جانباً. كان هواء مشبعاً بالواقعية الثورية، والحقيقة يومها ما كنتُ أدري أن ما يفصلني عن 2011 أربع أعوام فقط، لكنني أملأ الزجاجات وأغلقها جيداً وأضعها جانباً وعلى أمل أن يكون 2011 قريباً، وأيضاً على أمل أن يكون ما بعده هيناً، إذ ليس لذي شك أن عقب كل زعيم عربي مصيبة كبيرة، ومصيبتنا لا شك أنها أكبر المصائب لأن زعيمنا هو أقدم الزعماء، لذلك ومن باب الحيطة والحذر عدتُ محملاً بزجاجات من الواقعية الثورية، فمن يدري يا سيدي أن لا تقوم ثورة في ليبيا ويطلب الثوار من الواقع ما ليس فيه، ويرتبك المشهد وتختلط الأمور في غياب واقعية ثورية تمكنهم من محاكاة الواقع الذي يعيشون فيه دون التفريط في ثوابت ثورتهم.. مَن يدري أن لا يشرق في طرابلس فجر لا ينقصه سوى واقعية ثورية تعينه على التعامل مع تركة القذافي الثقيلة، ومَن يدري أن لا يغدو القذافي في يوم من الأيام أثراً بعد عين، ولكنه أثر سيء جداً تتطلب إزالته واقعية تعي تماماً أننا عشنا معه عقوداً مقلوبين نمشي على رؤوسنا، وتدويرنا لنعود ونقف على أقدمنا كما كل الناس يا سيدي يستلزم العمل بعقل وواقعية

ابراهيم عثمونه (أرشيف الكاتب)
1/11/2014

 

 

Jamel Arfaoui
Présentation
مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة