شاهدت فلما عن النكسة التشيكوسلوفاكية، زمن الحرب الباردة. يدوم الفلم أكثر من ثلاث ساعات، انتهيت منه ساعة السحر. بكيت، بكاء الكبرياء. دمع على الخد، بلا صوت. شاهدت في الفلم سماء من رصاص وحديد، تنطبق على أهل براغ. هنا الحياة توقفت، البقاء للمستبد. المستبد هنا، له طعم الحزب الواحد، مستعينا بالبوليس السياسي والقضاء الفاسد وأبواق البروباغندا السافلة المقيتة ودبابات سوفيتية رابضة قلب الشارع كأسود أنهكها الشبع. تونس ليست بالبعيدة، عن مرمى حجر. توريفال، أهرام، عملاق روداس، أهمّ ما في البلاد، في تشيكوسلوفاكيا، زمن الحائط الحديدي، مزار للسيّاح: الولاء للنظام، نظام يحكم الساعة والدقائق والثواني، يحكم حتى نومك وأنفاسك ونواياك. حذار من الحلم، أنت مراقب. ترى البوليس يتنصت، يسترق الصمت، يتبعك في البار، في المستشفى، في المرحاض، في القبر. إما أن تكون مبايعا عن طواعية، خروفا معترفا بسلطان الذئب، أو تستحيل إلى واشي يحترف كتابة التقارير، خنفسا كافكاويا. المستبد يسلّمك مهمة مراقبة أصدقاءك وزوجك وأبناءك ونفسك. وبين تقرير وتقرير، عليك أن تختلق وتبدع، كذبا أو صدقا، تهما، لكل من تعترضه مقلتاك. آخر الليل، داهمني القلق والفزع، كأني قبالة مسرح الشرّ، أخذت أخرج وأركّب الفلم من جديد، مع كتابة سيناريو صوره ولقطاته وحواراته محلية، من تونس، في تونس. لم أشقى كثيرا، حذفت اسم براغ، ووضعت مكانه تونس، نفس الحكاية، نفس الفلم. أبطالهم أبطالنا، أشرارهم أشرارنا، مأساتهم مأساتنا. جان بالاش التونسي، محمد البوعزيزي التشيكوسلوفاكي. تراجيديا الخنفس المحترق، فصل داهم الموت كافكا قبل أن يتمم رائعته المحاكمة. وهل لبراغ طعم دون كاف كافكا؟ "التضحية" فلم متلفز من ثلاثة أجزاء للمخرجة البولنديّة انيسكا هولندا. ينطلق بلقطة إحراق جان بلاش لنفسه. جان بالاش، طالب التّاريخ التشيكوسلوفاكي في جامعة براغ، أحرق نفسه في 16 جانفي 1969، في ساحة فانسيسلاس بالعاصمة التشيكيّة. تضحية بالاش جاءت احتجاجا على دبابات السوفيات. منذ البداية يصدمك التشابه بين القصّتين: جان بالاش ومحمّد البوعوزيزي. 17 ديسمبر 2010 أحرق البوعزيزي نفسه في الشّارع الرّئيس، قبالة مقر ولاية سيدي بوزيد، احتجاجا على الفاقة و"الحڤره". يصوّر الفلم المعركة التي تخوضها المحامية داغمار بروتشوفا من أجل مقاضاة النّائب المسؤول عن تشويه بالاش. هذه الفسحة، في تشيكوسلوفاكيا السّتينات، تصوّر لنا الاختناق والسجن تحت نظام شمولي، توتاليتاري. مجرّد التزامك بقضيّة ضدّ النظام، ضدّ السلطة، يفتح أمامك باب العبث. نعيش مع المحامية بروتشوفا ترددها في قبول القضيّة وما ترتّب عن التزامها برفع المظلمة عن الشهيد وكشف الحقيقة: الملاحقات، الرّعب، المشاكل العائليّة. حين تواجه السّلطة، تتحمّل كل المسؤوليّة، حتّى مسؤوليّة خيانة الأصدقاء والغرباء. أكاد أجزم أنّ بروتشوفا قد تسبّبت في دفع كل من حولها إلى الرضوخ والخيانة: الممرضة، القاضية، المحامي. الحرّية، شعار رفعه بالاش في رسالته إلى الشعب التشيكي. بالاش، الفتى الذّي ضل يأرّق مضجع السّلطة حتّى وهو في قبر. جهاز أمن الدولة، في "عمليّة القـبر"، أخرج جثمانه، الذي تحوّل إلى مزار يؤمّه المتظاهرون والمحتجون والغاضبون والسيّاح، عبث بـالرفات وحطّم الصرح التذكاري. رسالة تحيلنا إلى رسالة، لا فرق أن كان المضحّي/الضحيّة طالبا مثقّفا من تشيكوسلوفاكيا أو بائعا متجوّلا من تونس أو مواطنا أمريكيا أو راهبا بوذيا في فيتنام. احراق النفس من أجل قضيّة التحرر ليس انتحارا، إنّه موقف سياسي. أوج فعل الاحتجاج، آخر الرمق. بالاش والبوعزيزي، أطلقا الحريق، احترقا لينيرا السبيل. السلطة لا تتغيّر، هنا في براغ، هناك في تونس.
صفوان الطرابلسي