Accueilافتتاحيةديبلوماسية الدول والحراك المجتمعي

ديبلوماسية الدول والحراك المجتمعي

مرّة أخرى يتّضح بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ تونس لم تتخلص نهائيا من السياسة الخارجيّة لحكم «الترويكا» والتي قطعت فيها «الديبلوماسية التونسيّة» مع الإرث الديبلوماسي لدولة الاستقلال الذي تميّز بالانحياز فقط لمصالح تونس وبعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وألقت بها في حقل ألغام سياسة المحاور الذي كان الدخول فيها بالنسبة لتونس خطّا أحمر.

مرّة أخرى يختلط الحابل بالنّابل فتلتبس الأمور ولم يعد البعض يفرّق بين ما هو مطلوب من المجتمع المدني وما هو مطلوب من الدولة التي يفترض أنّها الضامنة لاحترام تونس لالتزاماتها الدوليّة.

ومناسبة هذا القول الزيارة التي أدّاها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الى تونس في إطار جولة له تشمل ستّ دول وهي زيارة أثارت جدلا واسعا في صفوف المجتمع المدني وهو جدل لم يُثَرْ بنفس الحدّة والاصرار ـ على سبيل المثال لا الحَصْرِ ـ خلال زيارة أردوغان الذي نفّذ حكمه أكبر المجازر في صفوف الصحفيين ومناضلي المجتمع المدني فضلا عن سياسته الدمويّة تجاه الأكراد وهوما دفع الى الاعتقاد بأنّ اللّوبي القطري تحرّك بقوّة وكذلك لوبي «الاخوان» وحركة «النهضة» وكلّ من انغمس قليلا أو كثيرا في لعبة المصالح الانتهازية والماديّة تحديدا.

فجأة تحرّكت ملفات اليمن والخاشقجي والطبيعة «اللاديمقراطية» للنظام السعودي وتراكمت «الأحداث» في هذا الاتجاه، ندوة صحفية لتقديم تقرير حول الوضع في اليمن ومع أنّنا لا ننظر بعين الرضى الى ما يجري في اليمن وندين كلّ الجرائم التي تنفّذ في حقّ الشعب اليمني عامّة ونخبة مهما كانت الجهة المورّطة في هذه الجرائم، وكلّنا يعلم أنّها جاءت متعددة ومتناقضة ومتناحرة أحيانا، فنحن استغربنا توقيت ومكان عقد ندوة صحفية لمبعوث أممي حول الموضوع، وهي ندوة صحفية تزامنت مع بيانات صحفية حول ذات الموضوع والكل تزامن مع زيارة ولي العهد السعودي الى تونس.

وأمّا عن ملف الخاشقجي والذي حامت شبهة تورّط النظام السعودي في مقتل الصحفي السعودي فإنّنا وإن كنّا ندين هذه الجريمة ونطالب السلطات التركية والسعودية بالكشف عن ملابساتها ومحاسبة مَنْ خطّط ونفّذ هذه الجريمة، فنحن لا نبرّئ أيّا كان ولكنّنا في المقابل لا ننصّب أنفسنا قضاة في مسألة هي منْ أنظار القضاء في كلّ من السعودية وتركيا…

ومع ذلك يبقى من صميم عمل المجتمع المدني ابداء الرأي والتظاهر والمطالبة بالحقيقة وبعدم الإفلات من العقاب وحتى باللجوء الى القضاء إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا العمل المجتمعي أضحى احدى الوسائل الأساسيّة التي تمرّر من خلالها الدول سياساتها رغم أنّه انطلق في بدايته كمظهر من مظاهر الشراكة في الحكم بين الدول والمجتمع المدني.

ولسنا في حاجة الى التذكير بأنّ هذا كان الهدف الأسمى للمنتديات الدولية والإقليمية الاجتماعية والمدنية وقد كنّا شهود عيان ومساهمين في الموضوع، ولكن بدأ الانحراف بمسار هذه المنتديات وبعمل عديد منظمات المجتمع المدني بِفعْلِ تضخّم الرهان المادي وإغراق النسيج المجتمعي بتمويلات ذهبت بريح المبادئ العامّة التي انبنى عليها العمل الجمعياتي وأدخلت بعض «المناضلين» في دوّامة المال الذي أَتْلَفَ ما علِقَ عند البعض من «مبادئ» افتقدت الى أسس صلبة تمكّنها من الديمومة… ولا نريد الاستفاضة أكثر رغم يقيننا أنّ الوقت قد حان لذلك بعدما لمسنا أنّ بعض منظمات المجتمع المدني تحوّلت واقعا الى مقاولات ودكاكين حقوقية تُصْدِرُ المواقف للتّسويق ويكاد عملها يقتصر على ذلك ويغيب عنها الفِعْلُ المجدي والنّافع للبلاد وللعباد.

وبالعود الى زيارة ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان الى تونس فإنّه من المفيد التذكير بأنّ ديبلوماسيّة الدول تحرّكها المصلحة ولاشيء غير المصلحة وهي الى ذلك مطالبة باحترام تعهدات الدول الثنائية ومتعدّدة الأطراف وهو أمر لا ينبغي البتّة أن يغيب عن أذهان الماسكين بدواليب الدول ولكنّ ما ينطبق على الدول لا يُلْزِمُ بالضرورة منظمات المجتمع المدني خصوصا في الأنظمة الديمقراطية، غير أنّه في المقابل ليس لهذه المنظمات أن تملي على الدول خطّ سيرها الديبلوماسي وخصوصا في الأنظمة الديمقراطية وأنّ ديبلوماسية الدول تسطّرها الحكومات والدول بحسب المقتضيات الدستوريّة لكل دولة ومجتمع..

ولو كانت علاقات الدول مرتبطة بضرورة أن تكون بين أنظمة «ديمقراطية» حسب معايير البعض لكانت العلاقات بين الدول مقتصرة على ناد محدود الأعضاء جدّا وأمّا ما زاد عن ذلك فإنّه محكوم عليهم بالانزواء داخل دُوَلِهِمْ مقطوعين عن «العالم الديمقراطي» الذي لا يكاد يجتمع داخله على معايير موحّدة لمفهوم النظام الديمقراطي..

إنّ العلاقات بين الدول لا تدار بعقليّة «مناضلي» المجتمع المدني على وجاهة رأي بعضهم وهي لا تؤسّس على طبيعة الأنظمة رغم أنّ هذه يمكن أن تكون موضوع مباحثات بين الدول، وفي تونس كنّا شهودا على الكيفية التي تمّ الزجّ بها ببلادنا في جحيم صراع المحاور وذلك بفعل سياسيين مازالوا لم يتخلّصوا بالكامل من فكر الهواية الذي يميّز منظمات المجتمع المدني والحقوقي أو ممّن فَتَكَ بعُذْرِيَتهمْ النّضالية والثّورية المال القادم من وراء البحار والصحاري.

إنّ زيارة وليّ العهد السعودي الى تونس تعتبر في منطق الدول ورجالات الدول نجاحا ديبلوماسيا كبيرا وهي حلقة مهمّة في تصحيح مسار الديبلوماسية التونسية التي فقدت هويتها إبّان حكم «الترويكا» وهي الى ذلك تعتبر كذلك نجاحا للمملكة العربية السعودية التي قطعت مع الفكر الشرقي التقليدي والانفعالي وفهمت أنّه في النُّظُمِ الديمقراطية يحدث أن تكون سياسات الدولة محلّ معارضة أطراف سياسية ومجتمعية.

رئيس الجمهورية من جهته كان شديد الوعي بأنّ حَجْمَ حفاوة الاستقبال ورِفْعَتَهِ من شأنه أن يَجُبّ ويحجب الأخطاء الطفيلية لبعض من يحكموننا، فبادر باستقبال وليّ العهد السعودي بنفسه الذي التقط بدوره الرسالة وبوّأ رئيس الجمهورية مكانة الأب وأسرّ للرئيس «أنّ تونس تحت رئاسته هي في أَيَادٍ أمينة وأنّ السعودية ستقف دوما الى جانبها وستجنّد لذلك كل الامكانيات».

*** بقلم الهاشمي نويرة

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة