على مدى السنوات الماضية، كانت الحكمة تقول إن الصراع تجمد عند الخطوط التي باتت معروفة وأن الأعمال العدائية أصبحت شيئا من الماضي وخرج منها الأسد منتصرا بشكل حتمي.
لكل هذا تراجع الاهتمام الدولي وانتهت تقريبا الدبلوماسية التي تركز على سوريا، وبدأت الحكومات تتخلص تدريجيا من الموارد بعيدا عن السياسة التي تستهدف سوريا وتتجه نحو تحديات عالمية أخرى.
وفي الوقت نفسه، ومع تفاقم الأوضاع في سوريا، اتخذت الحكومات العربية خطوة لإعادة التعامل بشكل جماعي مع الأسد بدءا من عام 2023، وإعادة تأهيله أو تطبيعه في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وبالنسبة لصناع السياسات في الولايات المتحدة، رأت في تولي الجهات الفاعلة الإقليمية المسؤولية عن سوريا، علامة مشجعة ومدعاة للارتياح. وفي الآونة الأخيرة، وبدافع من معارضتها لسياسة الاتحاد الأوروبي المتمثلة في عزل الأسد والإيمان بانتصاره، جمعت مجموعة من عشر دول أوروبية، بقيادة إيطاليا قواها في سعي إلى إعادة التعامل مع نظام الأسد واستكشاف سبل الدبلوماسية وعودة اللاجئين إلى سوريا.
قامت هذه التطورات على افتراض مفاده أن الظروف في سوريا وإن كانت سيئة إلا أن الأزمة نفسها لا تزال مجمدة ومحتواة وأن الأسد لم يعزز موقعه فقط بل ويزيد من تعزيز قوته، وبدا أن هذا الافتراض في غير محله. اقتصاد سوريا يعيش ومنذ سنوات حالة من الفوضى. وفي الوقت الذي رعت فيه روسيا وتركيا اللتان تدعمان أطراف الحرب المتنافسة عام 2020 بشكل أدى لتجميد النزاع، كان الدولار يساوي حوالي 1150 ليرة سورية. مع بدء هجوم المعارضة قبل أسبوع، كان الدولار يساوي 14750 ليرة سورية. وفي 4 ديسمبر، بعد أسبوع من عودة الحرب، كان سعر الدولار يساوي 17500 ليرة سورية.
بدلا من عودة الحياة إلى طبيعتها وانتشار الاستقرار بعد أكثر من عقد على الحرب، زادت الأزمة الإنسانية سوءا بعد اتفاق 2020. تقول أرقام الأمم المتحدة إن نسبة 90% من سكان سوريا باتوا يعيشون تحت خطر الفقر. وخفضت الحكومة في السنوات الأخيرة، الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية. الأسد لم يعد لديه أحد لإنقاذه من حالة الإفلاس، فقد عانى اقتصاد روسيا من ضربات بسبب غزو أوكرانيا أما إيران فهي في حالة يرثى لها. لم يكن هذا ليحدث أبدا، لو تعاون الأسد وبشكل بناء مع حكومات المنطقة والتي طبعت العلاقات معه في 2023، ولو قبل العرض التركي لتطبيع العلاقات معه بداية هذا العام، لكانت سوريا في وضع آخر.
مع تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد أكثر من أي وقت مضى، وانخفاض إرادة العالم وقدرته على المساعدة أكثر من أي وقت مضى، كان الشعب السوري يعاني. وبعد أن أدرك السوريون أنه لا يوجد ضوء في نهاية النفق، بدأوا في العودة إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط الأسد. وقبل أشهر، بدأ مقاتلو المعارضة السابقون الذين “تصالحوا” مع الحكومة بموجب اتفاقيات قبل ست سنوات في تحدي النظام.
في غضون ذلك، وفي ظل الانهيار الاقتصادي في سوريا، دخلت الجريمة المنظمة وكذلك إنتاج المخدرات والاتجار بها على مستوى واسع إلى قلب جهاز الأمن التابع للأسد. وفي الواقع، ربما يكون نظام الأسد الآن أكبر دولة مخدرات في العالم – تقوم في إنتاج الأمفيتامين المعروف باسم الكبتاغون.
تجارة المخدرات تديرها كتيبة النخبة في الجيش السوري، الفرقة الرابعة، والتي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس. هذه التجارة تسللت إلى ركن من أركان الجيش والميليشيات الموالية له. لقد مزقت الجريمة المنظمة وأمراء الحرب الذين يتعاونون مع النظام آخر ما تبقى من بنية متماسكة في داخل الدولة الأمنية السورية.
في الوقت نفسه، أدى تورط روسيا في أوكرانيا والحرب التي اندلعت بعد هجمات 7 أكتوبر واستهداف إسرائيل لإيران ووكلائها في سوريا ولبنان، إلى تحول انتباه روسيا وإيران عن سوريا. كانت روسيا وإيران وحزب الله حاضرين عندما بدأ هجوم المعارضة في 27 نوفمبر ولكنها تكبدت خسائر ولم تكن قادرة على الحفاظ على خطوط القتال. ولم يكن حضور الجهات الخارجية الفاعلة على خطوط القتال الأمامية كافيا لمنع انهيار قوات النظام.
هيئة تحرير الشام التي تسيطر على إدلب كانت تخطط منذ منتصف أكتوبر لهجوم، عندما تدخلت تركيا في محاولة لوقفها، وشنت روسيا على مدى أيام سلسلة من الغارات الجوية المكثفة ردا على ذلك. أظهرت الأحداث أن ثماني سنوات من الاستثمار الروسي في إعادة بناء جيش نظام الأسد لم يكن له تأثير يذكر على قدرة الجيش على القتال بفعالية تحت الضغط. رغم من أن جهود روسيا عززت بعض القدرات الفعالة داخل وحدات عسكرية، مثل فرقة المهام الخاصة الخامسة والعشرين، إلا أن الجيش السوري ككل يظل غير موحد وضعيف التنسيق.
عانى الجهاز العسكري للنظام من الركود في السنوات الأخيرة، حيث انهار من الداخل وتفكك من الخارج. ويمكن القول إن شبكة غير متبلورة من الميليشيات الموالية تقدم قدرة عسكرية أعظم من الجيش نفسه. القدرة التي أضافتها روسيا إلى جيش الأسد في السنوات الأخيرة هي استخدام مسيرات انتحارية. مع ذلك فقد تفوقت وحدة الطائرات المسيرة “كتائب شاهين” التي كشفت عنها هيئة تحرير الشام مؤخرا عليها بشكل كبير من حيث الحجم والتأثير، لقد أطلقت المئات على الخطوط الأمامية للنظام خلال الأسبوع الماضي. كل هذا يقدم صورة عن التناقض الصارخ، فقد عملت هيئة تحرير الشام والفصائل المقاتلة الأخرى ومنذ عام 2020، على تطوير قدراتها العسكرية وبشكل مكثف.
أنشأت هيئة تحرير الشام، تحديدا قوات خاصة تعرف باسم العصائب الحمراء والتي كانت بمثابة رأس الحربة في عمليات النهار، أما سرايا الحراري، فقد حققت مكاسب ليلية، حيث كان كل عنصر من عناصرها الـ500 يحمل أسلحة مجهزة بمناظير الرؤية الليلية وهو ما غير قواعد اللعبة. في حين قام فصيل آخر من هيئة تحرير الشام يعرف باسم كتائب شاهين باستخدام أسلحة ثقيلة عبر خطوط المواجهة، استخدمت المجموعة أيضا صواريخ كروز محلية الصنع، والتي تعادل قوتها التفجيرية شاحنة مفخخة انتحارية. تمكنت هيئة تحرير الشام وحلفاؤها من تحقيق التفوق النوعي وبشكل كامل على الجيش السوري، بفضل أساطيل المسيرات الاستطلاعية في الجو على مدار الساعة.
بالنظر إلى المستقبل، يواجه نظام الأسد معركة شاقة وخطيرة مع استمرار الهجوم الذي تقوده هيئة تحرير الشام. ألهم تراجع شعبية النظام الحادة في جميع أنحاء سوريا والتقدم الدرامي الذي أحرزته المعارضة، الفصائل الأخرى المسلحة في جميع أنحاء البلاد للقيام بالتعبئة واتخاذ الإجراءات، كما في درعا في الجنوب، وحمص في الوسط، ودير الزور في الشرق حيث تواجه مدن النظام والخطوط الأمامية العسكرية تحديات. المرة الأخيرة التي اضطر فيها الأسد إلى التعامل مع تحديات متعددة ومتضافرة لسيطرته على البلاد، كانت في عام 2015 حيث دفعت نظامه إلى نقطة الانهيار، واضطرت روسيا إلى التدخل عسكريا لإنقاذه. ولن يكون هناك منقذ هذا اليوم.