قال حامد عبد الصمد، الكاتب المصري المتخصص في الدراسات الإسلامية والعلوم السياسية، إنه “حين تقع الأزمات تبحث كل أمة عن التفسير والحلول في مخزونها الثقافي، ذلك أن الأمم المتصالحة مع العلم تبحث عن السبب العلمي للأزمة، وتبحث أيضاً عن المخرج العلمي من الأزمة. أما الأمم الغارقة في الضعف والجهل، فتبحث عن الأسباب في نظريات المؤامرة أو لعنات السماء، وتبحث عن الحلول في الرقية الشرعية والطب النبوي”، مبرزا أن “العقلية العلمية تعلم أن الأسباب معقدة والحلول صعبة، بينما العقلية الخرافية عندها سبب واحد لكل بلاء، وعلاج سهل لكل علّة”.
وأضاف عبد الصمد، في حوار أجرته معه جريدة هسبريس الإلكترونية،المغربية أن “فهم تراثنا مهم حتى نفهم أنفسنا اليوم ونفهم الآخر”، مبرزا أنه ضد القطيعة مع التراث وضد تمجيده أيضاً، فالقطيعة في نظره “تحرمنا من إمكانية فهم ماضينا، وبالتالي فهم حاضرنا، والتمجيد دون وجود فكر نقدي يجعل من التراث قيداً يعيق تحركنا، فيحكمنا أجدادنا من قبورهم، لكننا لا نستطيع أن نفهم التراث بالتراث، ولا نستطيع تفسير القرآن بالقرآن”.
وإليكم تفاصيل الحوار كاملاً:
وقعت شعوب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط في مهاوٍ لا متناهية بشأن انتشار فيروس كورونا، بحيث توزعت اتجاهات التفاعل الشعبي بين من فسّر الوباء بأنه عقاب إلهي، ومن رأى فيه حربا بيولوجية، ومن اعتبره مؤامرة خارجية. في نظرك، كيف يمكن فهم هذه التفسيرات المستغرقة في الفكر الغيبي والأسطوري؟
حين تقع الأزمات تبحث كل أمة عن التفسير والحلول في مخزونها الثقافي. الأمم المتصالحة مع العلم تبحث عن السبب العلمي للأزمة، وتبحث أيضاً عن المخرج العلمي من الأزمة. أما الأمم الغارقة في الضعف والجهل، فتبحث عن الأسباب في نظريات المؤامرة أو لعنات السماء، وتبحث عن الحلول في الرقية الشرعية والطب النبوي. العقلية العلمية تعلم أن الأسباب معقدة والحلول صعبة، بينما العقلية الخرافية عندها سبب واحد لكل بلاء، وعلاج سهل لكل علّة.
لذلك، بدأ الغرب بتحليل التركيبة الجينية للفيروس المستجد واخترع أجهزة لاختبار الإصابة به، ثم عكف على تطوير أمصال قد تستغرق شهوراً وسنوات حتى تصير متاحة للاستعمال. أما في بلادنا، فقد تمّت أسلمة الفيروس؛ فسميناه جائحة بدلاً من وباء، ثم اعتبرناه عقاباً من الله للصين بسبب اضطهاد المسلمين هناك، ثم اعتبرناه عقابا لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا بسبب الحروب الصليبية، ثم قال البعض إنه رسالة من الله حتى تتحجب النساء ولا يختلطن بالرجال، وحتى يتم إغلاق الحانات والمراقص. لم ينتبه هؤلاء أنهم-دون قصد-كانوا لا يمدحون دينهم، بل كانوا يقارنونه بوباء قاتل.
انتعش العقل السلفي في الشبكات الاجتماعية خلال “زمن كورونا” مغيّبا المقاربة العلمية في تفسيره للوضعية الوبائية في العالم، مستعيناً بالوصفات الشعبية غير الطبية لعلاج “كوفيد-19” رغم الخطر الصحي الذي قد تُشكله على صاحبها. ما الذي يُعزّز التصور الثيولوجي في مجتمعاتنا بشأن الكوارث الطبيعية والأوبئة؟
العقلية السلفية ترى أن الدين هو أصل كلّ العلوم ومنتهاها، فلا أحد منهم يستعمل خارطة للعالم من القرن السابع الميلادي إذا أراد الإبحار، ولا أحد يركب الجمل أو الحصان لو أراد السفر من طنجة إلى مراكش، لكنهم يظنون أن نفس الوصفات الطبية الصحراوية من القرن السابع تكفي لعلاج أمراض القرن الحادي والعشرين. بعض السلفيين مصابون بحالة من الإنكار، لأنهم لا يريدون الاعتراف بأن العلاج يأتي به كافر من الغرب ولا يأتِ من حديثٍ للرسول. لا يفهمون أن الرسول جاء بحلول لزمانه لا لزماننا، كما أنه لم يكن طبيباً ولا عالم أوبئة، وأنه نفسه مات بالحمى.
يبدو أن هناك استسهالاً للحديث في الدين الإسلامي بمجتمعات المنطقة، وهو ما زاد أكثر خلال فترة الأزمة الوبائية، فكلّما وقعت ظاهرة معينة نجد الأغلبية تفسّر تمفصلاتها بشكل وثوقي، وتحلّل النصوص الدينية كيفما شاءت وتُسقطها على تلك الواقعة. لماذا يتحدث الجميع في الدين بطريقة يغلب عليها الاستسهال، لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي؟
كما ذكرت، الموضوع له علاقة بالإنكار والاستعلاء. الخطاب الديني غرس في وعينا الجمعي أن البلاء من عند الله والدواء من عند الله، كما قال عن الكافرين: “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا”؛ أي إن كل ما عمله الكفار من علم وطب ونفع للبشرية لا يساوي عند الله شيئاً لأنهم لا يؤمنون بالله. وهذا سر عداء مجتمعاتنا للعلم، أولاً لأننا لا نتقنه، والمرء عدو ما يجهل، وثانياً لأن “الكفار” هم من يعلموننا إياه، وهذا ضد ادعائنا بأننا خير أمة أخرجت للناس. الجرح النرجسي في مواجهة الغرب يجعلنا ننسحب دائماً للدين، ونبحث فيه عن جواب لكل سؤال.
وجدت العديد من الأنظمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صعوبات كبيرة في إقناع مواطنيها بقرار إغلاق المساجد، رغم الخطر المحدق بالمصلّين بسبب التداعيات الصحية المترتبة عن الوباء. ما الذي أدى إلى سيطرة العاطفة الدينية المُبالغ فيها على الإنسان رغم علمه أن الدين الإسلامي يدعو إلى عدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة؟
حين يكون الدين جزءً من هوية الإنسان، يلعب دوراً إيجابياً لأنه يمنح الإنسان السكينة والأمل، ولكن حين يكون الدين هو كل هوية الإنسان، فيصير معادياً لكل ما سواه من هويات ومصالح. الخطاب الديني عظّم من دور الدين في المجتمع وجعله المشرع والطبيب والحاكم والمصرفي. وحين جاء وباء “كورونا” كان على المسؤولين معاملة المساجد نفس معاملة دور السينما، لأن كليهما صار بؤرة يمكن أن تنشر الوباء.
كان على أصحاب السينمات ومشاهدي الأفلام قبول قرار الإغلاق، أما بعض أئمة المساجد وبعض المصلين شعروا بالهزيمة لأنهم يعتبرون المساجد بيت الشفاء لا بيت الداء. هو جرح نرجسي جديد، حيث لم تكن المساجد هي بيوت المشورة وقت الأزمة، بل جزء من المشكلة، وتقلص دور رجال الدين بعد أن كانوا معتادين على إرشاد الناس في كل صغيرة وكبيرة. ومن هنا جاء التذكر ومقاومة إغلاق دور العبادة. وللأمانة هذه ليست ظاهرة إسلامية فقط، فبعض المسيحيين في الشرق والغرب رفضوا أيضاً إغلاق الكنائس ورفضوا تعطيل طقس التناول، وقالوا إن أبناء المسيح لا تصيبهم العدوى، خاصة في الكنائس.
الخطاب الديني المُتداول في الأحاديث العامة والخاصة للأفراد خلال تفشي “كورونا” أصبح يسائل الاستراتيجيات الدينية المعتمدة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طوال عقود مضت، بعدما راهنت كثيرٌ من الأنظمة على تشجيع أصحاب الفكر الديني المتشدد لضمان شرعيتها السياسية. هل نحتاج إلى إصلاح ديني جذري بعد انحسار الوباء؟
نحتاج إلى إصلاح سياسي وفكري أولاً. كل دولة استخدمت الدين لضمان شرعيتها السياسية كانت تربي فرانكشتاين. وهذه الدول انكسرت فيما بعد إما بسبب انقلاب الجماعات الدينية على السلطة، أو بسبب الإرهاب، أو بسبب مقاومة الجماعات الدينية للإصلاحات الضرورية. بلادنا على مفترق الطرق، وعلينا أن نتصالح مع العلم، ومع الغرب، ومع باقي البشرية.
علينا أن نعيد النظر في اقتصادنا، لذلك لا بد أن نهتم بالبحث العلمي وحرية الكلام وحرية العقيدة، لأن المجتمعات غير الحرة لا تنتج علوماً ولا اختراعات ولا اقتصاداً حراً. وعلينا ألا نحابي العقلية الدينية ولا المشاعر الدينية على حساب العلم والمنطق والإنتاج. على السياسيين أن يعلموا أن البقرة التي كانت تدر لهم حليب الشرعية أصبحت تلتهم أكثر مما تنتج، وعليهم أن يوقفوا هذه اللعبة التي قد تتسبب في دمار بلادهم!
قضية “التراث” في علاقتها بالهوية تثير الكثير من الجدل، حيث تسود القراءات التراثية التمجيدية بدون استحضار العقل النقدي في المرحلة الراهنة، وهي مسألة تطرق إليها محمد عابد الجابري الذي أكد أن أغلب فكرنا المعاصر إما نتاج وضعية مضت أو نتاج وضعية لم نعشها بعد. ما منظورك للتعامل مع مقروئنا التراثي؟
فهم تراثنا مهم حتى نفهم أنفسنا اليوم ونفهم الآخر. أنا ضد القطيعة مع التراث وضد تمجيده أيضاً؛ القطيعة تحرمنا من إمكانية فهم ماضينا، وبالتالي فهم حاضرنا، والتمجيد دون وجود فكر نقدي يجعل من التراث قيداً يعيق تحركنا، فيحكمنا أجدادنا من قبورهم، لكننا لا نستطيع أن نفهم التراث بالتراث، ولا نستطيع تفسير القرآن بالقرآن.
نحتاج إلى أدوات حداثية مثل الفلسفة وعلوم اللغة والاجتماع والتاريخ كي نفكك التراث، ونضعه في سياق عصره حتى نفهم من أين أتى. وحين نفهمه جيداً لن نكون بحاجة للصدام معه، ولكن نستطيع أن نتركه ونمضي كما يترك الطفل طفولته خلفه ويصير رجلاً، ومع ذلك تبقى الطفولة جزءً مهماً من ذاكرة وهوية الرجل. تعجبني مقولة للفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد: “لا تُفهَم الحياة إلا بالرجوع بالذاكرة إلى الوراء، ولكنها لا تُعاش حقًا إلا بالمُضي إلى الأمام!”.