الرئيسيةآخر الأخبارالإتحاد الأوروبي اليوم: مكيافيللي في بروكسل … وقيم في المزاد

الإتحاد الأوروبي اليوم: مكيافيللي في بروكسل … وقيم في المزاد

في أعقاب الانتخابات الأوروبية الأخيرة، لم يكن صعود الأحزاب المتطرفة، من اليمين الشعبوي إلى الفاشيين الجدد، مجرد حدث سياسي عابر، بل كان مؤشّرًا صارخًا على التحول العميق الذي يشهده البرلمان الأوروبي. تحالفات هجينة، لا يجمع بينها سوى هوس السلطة، وغياب المبادئ، وشعارات فضفاضة لا تصمد أمام أول اختبار جاد. تحالفات تشبه في بنيتها وغاياتها تحالفات “الضباع”، حيث لا مكان للقيم، بل لمصالح آنية تُطبخ في كواليس السياسة الأوروبية بعيدًا عن أعين الشعوب.

باتت مؤسسات الاتحاد، التي لطالما تغنت بالشفافية والمساءلة، أسيرة ازدواجية خطيرة.

ففي الوقت الذي ترفع فيه شعارات مكافحة الفساد، تُسجل حالات متكررة لنواب ومسؤولين متورطين في فضائح مالية، ورشاوى سياسية، وعلاقات مشبوهة مع أنظمة استبدادية.

من أبرز هذه الفضائح ما عُرف باسم “قطرغيت” (Qatargate)، وهي فضيحة مدوية انفجرت في ديسمبر 2022، عندما تم إيقاف نائبة رئيس البرلمان الأوروبي السابقة إيفا كايلي (Eva Kaili)، وهي نائبة يونانية تنتمي إلى مجموعة الاشتراكيين والديمقراطيين، بشبهة تلقيها مبالغ مالية ضخمة وهدايا فاخرة من حكومة قطر (ثم لاحقًا ذكرت التحقيقات المغرب أيضًا)، مقابل التأثير على قرارات البرلمان بشأن ملفات تتعلق بحقوق الإنسان والتعاون الاقتصادي. تم العثور في شقتها على حقائب مليئة بالنقود، ما جعل القضية تتحول إلى زلزال سياسي داخل المؤسسة الأوروبية.

ولم تكن كايلي وحدها في قفص الاتهام. فقد شملت التحقيقات أيضًا نوابًا آخرين، مثل الإيطالي بيير أنطونيو بانزيري (Pier Antonio Panzeri)، النائب السابق الذي وُصف بأنه “العقل المدبر” للشبكة، إضافة إلى مساعدين برلمانيين وشخصيات مؤثرة في دوائر القرار الأوروبي.

أما على مستوى المفوضية الأوروبية، فلا تزال أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية، تواجه ضغوطًا متزايدة بشأن صفقة شراء لقاحات “فايزر” خلال أزمة كوفيد-19. حيث كشفت صحيفة New York Times ومؤسسات صحفية أوروبية عن اختفاء الرسائل النصية الخاصة بها مع الرئيس التنفيذي لشركة فايزر، والتي قيل إنها كانت وراء إبرام صفقة بقيمة تفوق 35 مليار يورو، وسط غياب تام للشفافية. رغم طلب البرلمان الأوروبي فتح تحقيق رسمي، إلا أن فون دير لاين رفضت التعاون الكامل، ما فُسر بأنه تستر على ممارسات غير قانونية.

في ظل هذا الواقع، لم يعد خطاب الاتحاد حول “قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان” يقنع الكثيرين. إذ ثبت، في مناسبات عدّة، أن هذه المبادئ ليست سوى أدوات ناعمة لتبرير سياسات انتقائية، تُستخدم ضد الخصوم وتُعطّل عندما يتعلق الأمر بحلفاء نافذين، أو بمصالح اقتصادية وجيوسياسية أكبر من أن تُهددها الأخلاقيات.

لقد بات الاتحاد الأوروبي، في نظر كثير من المراقبين، يشبه كارتيلًا سياسيًا يتستر خلف خطاب إنساني، بينما يمارس خلف الستار سلوكًا براغماتيًا لا يختلف كثيرًا عن ما جاء في كتاب “الأمير” لميكافيللي، حيث تُبرر الغاية الوسيلة، وتُغلف الانتهازية بغلاف المبادئ.

في السنوات الأخيرة، سقط القناع أكثر من مرة: من الموقف المزدوج تجاه قضايا حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، إلى التواطؤ الضمني مع أنظمة قمعية، مرورًا بممارسات طرد اللاجئين، وازدواجية التعاطي مع الحروب والمآسي الإنسانية.

وفي هذا السياق، تعمدت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى تنفيذ عمليات طرد قسري لمهاجرين وطالبي لجوء، دون احترام للإجراءات القانونية، وأحيانًا رغم وجود قرارات قضائية صريحة تمنع ذلك. ففي ألمانيا وفرنسا، وثّقت منظمات حقوقية تنفيذ عمليات ترحيل ليلي، أو خلال عطلات نهاية الأسبوع، في تجاهل متعمد لأوامر وقف التنفيذ الصادرة عن المحاكم. أما في دول مثل المجر وبلغاريا، فقد رُصدت حالات طرد جماعي عبر الحدود تُعرف بعمليات Pushbacks، يُستخدم فيها العنف، في انتهاك صريح للقانون الدولي. وفي إيطاليا، رغم اعتراض المحاكم، أبرمت الحكومة اتفاقيات مع دول شمال إفريقيا لترحيل مهاجرين إلى أماكن غير آمنة، ضاربة عرض الحائط بمبدأ عدم الإعادة القسرية. هذه الممارسات تكشف مجددًا مدى الانفصام بين الخطاب الحقوقي الأوروبي، والواقع الذي يُدار بمنطق المصلحة السياسية البحتة.

اليوم، لم يفقد الاتحاد الأوروبي فقط بريقه، بل انكشف زيف هذا البريق. لم يعد ذلك الكيان الحالم الذي بُني على أنقاض الحرب العالمية لتوحيد القارة على أسس العدالة والكرامة. لقد صار في نظر كثيرين مجرد قوة كبرى تبحث عن النفوذ، شأنه شأن سائر القوى، ولكن بأقنعة أنيقة وديباجات حقوقية لا تصمد طويلًا أمام الواقع.

ويبقى السؤال المطروح: هل لا يزال بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يستعيد روحه وقيمه التأسيسية؟ أم أنه انحدر بالفعل إلى مستوى لا رجعة فيه من التناقض والانتهازية السياسية؟ الجواب تحمله الأيام، لكن الشواهد الحالية لا تدعو إلى كثير من التفاؤل.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!