يُعد الزيت في تونس أكثر من مجرد مادة غذائية؛ فهو جزء لا يتجزأ من هوية المائدة اليومية، ورمز للثقافة الغذائية، ومؤشر على الاختيارات الاقتصادية والسياسية للبلاد. ورغم أهميته، تكشف البيانات عن فجوة كبيرة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك الفعلي في السوق التونسية، مما يجعل الأمن الغذائي هشًا ويعتمد بدرجة كبيرة على الأسواق العالمية.
وتكشف الأرقام الرسمية أن فاتورة استيراد الزيوت النباتية مازلت مرتفعة و رغم الضغوط التي مارستها الدولة على توريد الزيوت النباتية لتتراجع بنسبة أكثر من 30 بالمائة وتصل مع أواخر جويلية الماضي 349.4 مليون دينار مقابل حوالي 500 مليون دينار في جويلية 2024 وفق تقرير المرصد الوطني للفلاحة الصادر في أوت الماضي.
استهلاك الزيوت النباتية في تونس
يبلغ إجمالي استهلاك تونس من الزيوت النباتية حوالي 300,000 طن سنويًا. من هذا الحجم، تُستورد تونس حوالي 250,000 طن من الزيوت النباتية الأساسية مثل زيت الصويا، وزيت دوّار الشمس، وزيت الذرة. أما الإنتاج المحلي فيقتصر على زيت الزيتون وزيت الكولزا ويغطّي حوالي 17% فقط من الاستهلاك المحلي، بينما يمثل الاستيراد نسبة تقارب 83% من السوق.
الاعتماد على الواردات: مخاطره وتبعاته
يعكس هذا الاعتماد الكبير على الزيوت المستوردة هشاشة الأمن الغذائي للبلاد، ويجعل السوق التونسية رهينة لتقلبات الأسعار العالمية، كما ظهر جليًا خلال جائحة كورونا والأزمات الدولية الأخيرة. يعتمد الاستهلاك المحلي على زيوت مستوردة غالبًا ما تفتقد للشفافية بشأن مصادرها أو كونها معدلة وراثيًا، ما يطرح تحديات صحية واقتصادية.
الإنتاج المحلي: إمكانيات غير مستغلة
رغم تفوّق تونس عالميًا في إنتاج زيت الزيتون، إلا أن الجزء الأكبر من الإنتاج يُوجَّه للتصدير، بينما يستهلك السوق المحلي حوالي 15% فقط. أما الزيوت الأخرى، مثل السلجم الزيتي ودوّار الشمس، فهي محدودة الإنتاج وغير مدعومة بالشكل الكافي، رغم قدرتها على تقليل الاعتماد على الواردات وتوفير خيارات غذائية صحية أكثر للمستهلكين.
ورغم الأهمية الكبرى لهذا القطاع، شهد مفترق الـ74 يوم السبت 13 سبتمبر 2025 اجتماعًا عامًا لبحث آفاق قطاع زيت الزيتون، ببادرة من نواب الشعب ومشاركة واسعة للفلاحين وأصحاب المعاصر. وقد تناول الاجتماع مختلف الإشكاليات المتعلقة بالإنتاج والتحويل والتسويق، وتم رفع تقرير مفصل إلى رئيس مجلس النواب.
لكن من الملاحظ أن اللجنة المكلفة بالقطاع الزراعي في البرلمان لم تطرح مطلقًا موضوع اعتماد تونس الكبير على الزيوت النباتية المستوردة، ما يعكس تجاهلًا نسبيًا لهذه المعضلة الاقتصادية والغذائية الكبرى.
السيادة الغذائية والصحة العامة
السيادة الغذائية لا تعني الاكتفاء الذاتي فقط، بل القدرة على ضمان غذاء صحي وسليم. فالاعتماد المفرط على الزيوت المستوردة الرخيصة يؤثر على جودة التغذية ويقلل من استفادة المواطن من فوائد زيت الزيتون والمحاصيل الزيتية الوطنية. تعزيز الاستهلاك المحلي للزيت الوطني يعد استثمارًا في صحة المواطنين وثقافة غذائية سليمة، وليس مجرد خيار اقتصادي.
مقاربة شاملة لتعزيز الإنتاج والاستهلاك المحلي
لمواجهة هذه التحديات، يجب تبني استراتيجية متعددة الأبعاد:
- تشجيع الإنتاج الوطني: زيادة مساحات زراعة السلجم الزيتي ودوّار الشمس، وربطها بالصناعات التحويلية المحلية لضمان جودة المنتج المحلي.
- تحسين سلاسل التوريد: مراقبة جودة الزيوت المستوردة ومنع وجود أي مكونات معدلة وراثيًا، وتوجيه الدعم الحكومي نحو الفلاحين المحليين.
- توعية المستهلك: تغيير العادات الغذائية تدريجيًا لتعزيز استهلاك زيت الزيتون والزيوت المحلية الصحية.
في نهاية الأمر فان الزيت ليس مجرد سلعة، بل معيار للسيادة الغذائية والصحة العامة. إعادة التوازن بين استهلاك الزيوت الوطنية وتقليل الاعتماد على الواردات، مع تطوير الإنتاج المحلي بشكل متكامل، هو الطريق لضمان وصول مادة غذائية آمنة وصحية وبسعر عادل إلى كل بيت تونسي، مع تمكين المواطن من الاختيار الواعي بدل الاكتفاء بالمردود السوقي العشوائي.

