سجّلت السجون الإيطالية مأساة جديدة بانتحار شاب تونسي يبلغ من العمر 30 عامًا، كان محتجزًا في سجن “بييترو تشيرولي” بمدينة تراباني، في ظروف توصف بأنها “لاإنسانية” وفق ما تؤكده شهادات العاملين والسجناء على حد سواء، بينما تستمر وزارة العدل الإيطالية في صمتها المطبق حسب ما جاء في تقرير للصحيفة الايطالية LIBERA INFORMAZIONE
الضحية، الذي كان موقوفًا على خلفية قضايا تتعلق بالمخدرات، عانى من اضطرابات نفسية حادة، وكان يستحق – بحسب مصادر مطلعة – الإيداع في مؤسسة صحية مختصة أو في مركز علاج نفسي محمي، وليس داخل زنزانة مغلقة.
هذا الشاب كان قد حاول الانتحار في وقت سابق ونُقل إلى المستشفى، لكن بعد عودته إلى زنزانته، واصل محاولاته حتى نجح في إنهاء حياته. ولا تزال التساؤلات مطروحة حول السبب الذي جعل السلطات تبقيه في السجن رغم إصابته بأمراض نفسية موثقة.
الحادثة أثارت موجة من الغضب داخل الأوساط السياسية والحقوقية، ودفعت نوابًا إلى توجيه أسئلة برلمانية إلى وزير العدل كارلو نورديو، مطالبين بإجابات عاجلة. غير أن الأزمة، كما يقول المنتقدون، أعمق من مجرد حالة فردية.
سجن غارق في الإهمال… وتواطؤ بالصمت
يُذكر أن سجن تراباني كان في قلب فضيحة كبرى قبل أشهر، بعد أن كشفت تحقيقات قضائية تورط عدد من أعوان السجون في ممارسة التعذيب ضد سجناء، وهي قضية لا تزال مفتوحة أمام القضاء. وقد أدى ذلك إلى إغلاق أحد الأقسام بسبب ظروفه غير الصالحة. ومع ذلك، لم تبذل أي مجهودات حقيقية لإعادة تهيئته، رغم الاكتظاظ الخانق.
في هذا السياق، قال جينّارينو دي فازيو، الأمين العام لنقابة الشرطة السجنية UILPA:
“عدد المنتحرين من السجناء في إيطاليا بلغ هذا العام 44 حالة، يضاف إليهم ثلاثة من موظفي السجون. إنها مجزرة مستمرة، بينما يكتفي الوزير نورديو وحكومة ميلوني بوعود خاوية ومراسيم أثبتت فشلها، مثل المرسوم 92/2024.”
تشير المعطيات إلى وجود 524 سجينًا داخل سجن تراباني، بينما لا تتجاوز طاقته الرسمية 497 مكانًا، في حين يبلغ عدد أعوان الأمن 260 فقط، رغم الحاجة إلى 417 على الأقل. الوضع بلغ حدّا جعل عونًا واحدًا يُكلف بمراقبة أربعة مساجين في وقت واحد.
من جهتها، وصفت النائبتان عن الحزب الديمقراطي، ديبورا سيراكياني وجوفانا إياكونو، ما يجري بـ”أزمة انتحارات داخل السجون”، وأعلنتا عن تقديم سؤال برلماني لمساءلة الوزير نورديو بشأن ما إذا تم اتخاذ تدابير وقائية داخل سجن تراباني، بعد تواتر محاولات الانتحار والأذى الذاتي.
وأضافتا:
“لقد طالبنا مرارًا الحكومة باعتماد إجراءات عاجلة واستثمارات جدية لمعالجة الأزمة، لكن لا يمكن القبول بتحوّل السجون إلى أماكن للموت واليأس، حيث تُنتهك كرامة الإنسان يوميًا.”
قبل أيام قليلة فقط، زار نائب البرلمان ماركو غريمالدي والناشط الحقوقي والمحامي بييرباولو مونتالطو سجن تراباني ضمن وفد من تحالف اليسار البيئي الاجتماعي (AVS). وقد أعربا عن صدمتهما من الوضع الكارثي داخله، وكتبا في بيان مشترك:
“ما رأيناه بأعيننا في سجن تشيرولي لا يمت بأي صلة لاحترام الدستور ولا لأبسط مبادئ حقوق الإنسان. حالات مرضى نفسيين في أوضاع مزرية، انعدام شبه تام للمرافقة الطبية أو النفسية، انتحار كان نتيجة طبيعية لوضع غير إنساني.”
وكشف مونتالطو عن تفاصيل مرعبة:
- غرف صغيرة تضم خمسة سجناء وسط درجات حرارة تتجاوز الأربعين درجة.
- سوء تغذية، حيث تُقدّم وجبة العشاء الساعة الثالثة بعد الظهر.
- “ساعة الهواء” تُفرض من 13:00 إلى 15:00 تحت أشعة الشمس الحارقة.
- سجناء يتناولون أدوية نفسية ثقيلة دون مراقبة، في ظل غياب كلي للمتابعة من الأطباء والأخصائيين.
في مقال نشرته صحيفة كوريري ديلا سيرا، كتب القاضي والمستشار السابق بمحكمة الاستئناف، فيليبو ميسانا، عن الأبعاد النفسية للانتحار في السجون قائلاً:
“الانتظار الطويل، الصمت، الإهمال، أو حتى العنف، كلها عوامل تُفسد عملية الملاحظة والإدماج. ومع تلاشي الأمل في الخارج، يفقد السجين ذاته ومعنى العقوبة، لتصبح الخسارة النفسية أقسى من السجن ذاته.”
خلاصة: موت معلن في سجن منسي
مأساة الشاب التونسي في تراباني ليست إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانتهاكات التي يعيشها سجناء لا يُنظر إليهم إلا كأرقام. ومع غياب أي ردّ رسمي حول وفاته، يتواصل التواطؤ بالصمت، محليًا ودوليًا، فيما تتحوّل الزنازين إلى مقابر مؤقتة، وأحيانًا نهائية.

