في ظرف شهر واحد فقط، وتحديدًا خلال شهر جوان 2025، لم يفوّت رئيس الجمهورية قيس سعيّد أي فرصة للتأكيد على أن لحظة “العبور التاريخي” لتونس قد انطلقت بالفعل، وأن لا مجال بعد اليوم للتردّد أو التراخي أو الوقوف في المنطقة الرمادية. فمن لقاء إلى آخر، مع رئيسة الحكومة – 6 لقاءات – تتكرّر نفس العبارات وتتّسع نفس الدائرة: مساءلة، محاسبة، إبعاد، تطهير، ثورة تشريعية، فكر إداري جديد… كلها مفردات تُؤشر إلى أن الرئيس قد دخل مرحلة الهجوم المضاد على جهاز إداري يعتبره مأزومًا، متواطئًا، أو على الأقل غير منخرط بما يكفي في مشروعه السياسي.
في هذا الشهر وحده، وجّه رئيس الدولة اتهامات مباشرة لمن وصفهم بـ”اللوبيات التي تعربد في الخفاء”، وندّد بمن يخدمونهم داخل الإدارة، مهددًا بإبعاد كل من لا يعمل من أجل مصلحة الشعب. وذهب أبعد من ذلك حين دعا إلى تمكين من طالت بطالتهم من المسؤوليات، حتى وإن كانوا يفتقرون إلى الخبرة، لأنهم – في نظره – يتّقدون حماسًا ووطنيّة تؤهّلهم لقيادة المرحلة.
الرسالة كانت واضحة في كل مرة: لا أحد فوق القانون، لا قداسة لموقع وظيفي، ولا عذر للإجراءات إذا كانت تُستعمل لتعطيل مصالح المواطنين. بل إن سعيّد لم يتردّد في تشبيه بعض المؤسسات بأنها أشبه بمن “يتوقّى من المرض وأعراض المرض ظاهرة عليه”، في إشارة إلى ما يعتبره فسادًا مقنّعًا باسم الرقابة والحوكمة.
هذه السلسلة المتتالية من التصريحات ليست مجرّد ارتجال في مواجهة بيروقراطية منهكة، بل تعبّر عن رؤية متكاملة لإعادة تشكيل الدولة:
رؤية تؤمن أن الثورة لا تكتمل بنصوص تشريعية فقط، بل تحتاج إلى “ثورة إدارية” يشارك فيها الشباب المقصيّ، وأنّ البناء لا يمكن أن يتم بأدوات قديمة وعقليات متكلسة ” فمن طالت بطالتهم أولى بالحلول مكانهم وسيحلّون حتّى وإن كانت تعوزهم الخبرة فهم يتّقدون حماسا للمشاركة في عملية البناء والتشييد ومقاومة الفساد.”
غير أن هذا النسق التصاعدي، وإن كان يستند إلى شرعية انتخابية وشعبية، يطرح تساؤلات جوهرية:
هل تمتلك الدولة القدرة الإدارية واللوجستية فعلاً على استبدال نخبها دون أن تهتز مفاصلها؟
ثم، ما مآلات مؤسسات تُتهم علنًا بأنها مجرد هياكل صورية في حين أنها كانت – على الورق – عناوين الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد؟
الواضح أن قيس سعيّد، في جوان، لم يكن يتحدث فقط عن تقييم أداء، بل عن إعادة توزيع للثقة والمسؤولية والشرعية داخل أجهزة الدولة. إنها محاولة لفرز شامل، وحسم سياسي وإداري قد يعيد رسم خارطة السلطة في تونس، ليس فقط من حيث الأسماء والمناصب، بل من حيث المفاهيم: من يخدم الشعب ومن يعطّله، من ينتمي للمستقبل ومن يعيش في الماضي.
جوان لم يكن مجرد شهر من التصريحات، بل كان بمثابة إعلان نوايا لإعادة هندسة الدولة من الداخل.

