تتجه الجزائر خلال السنوات الأخيرة إلى اعتماد مقاربة استراتيجية جديدة في مجال استكشاف النفط والغاز، تقوم على تنويع الشركات الأجنبية العاملة في السوق الطاقية، بعد عقود كانت فيها الشراكات متمركزة أساسًا حول عدد محدود من الفاعلين التقليديين. ويبدو أن هذا الخيار لم يعد مجرد توجه ظرفي، بل أصبح سياسة ممنهجة هدفها تحصين الأمن الطاقي وتعزيز القدرات الإنتاجية عبر منافسة تكنولوجية واستثمارية أوسع.
جولة تراخيص جديدة تعكس التحول
وجاءت أول جولة تراخيص منذ عشر سنوات في مطلع العام الجاري لتؤكّد هذا التوجه، إذ حصلت شركات عالمية متعددة الجنسيات على حقوق الاستكشاف والإنتاج في خمسة حقول غاز، بينها:
- إيني الإيطالية
- توتال إنرجيز الفرنسية
- سينوبك الصينية
- قطر للطاقة
- إضافة إلى شراكة جديدة مع شيفرون و “إكسون موبيل”الأميركيتين
هذا التنوع لا يعكس فقط الانفتاح على قوى طاقية من قارات مختلفة، بل يشير إلى رغبة الجزائر في خلق توازنات دولية جديدة داخل قطاعها الحيوي، خصوصًا في ظل التنافس المتصاعد على سوق الغاز الأوروبي.
أسباب التحوّل: من الحاجة إلى التكنولوجيا إلى تنويع المخاطر
يعكس الانفتاح على شركات متنوعة من أوروبا، آسيا، الخليج والولايات المتحدة جملة من الاعتبارات أهمها:
1. تنويع التكنولوجيا والخبرة
لكل شركة بصمتها التقنية الخاصة، وامتلاك الجزائر لمزيج من هذه الخبرات يمكّنها من رفع مردودية الاستكشاف وإعادة تأهيل المكامن المتقادمة.
2. كسر الاحتكار وتوسيع دائرة المنافسة
إيطاليا وفرنسا كانتا لعقود أكبر شريكين للطاقة الجزائرية. اليوم، دخول أطراف جديدة مثل قطر والصين والولايات المتحدة يمنح الجزائر هامش تفاوض أكبر ويقلّص من تبعية السوق لشركاء محدودين.
3. جذب استثمارات أوسع في زمن الطلب المتزايد على الغاز
تزايد الطلب الأوروبي على الغاز الجزائري بعد الأزمة الروسية–الأوكرانية شجع الجزائر على فتح الباب أمام شركات جديدة بهدف تسريع مشاريع الاستكشاف وزيادة القدرة الإنتاجية.
4. تقليل المخاطر الجيوسياسية
توزيع الشراكات على محاور دولية مختلفة (أميركا، أوروبا، الصين، الخليج) يمكّن الجزائر من حماية قطاعها الطاقي من الضغوط السياسية أو التوترات الإقليمية.
سوناطراك في قلب الاستراتيجية
شركة سوناطراك، التي تحافظ على دورها المحوري كشريك إجباري في جميع المشاريع، باتت تدير منظومة أكثر ديناميكية، تجمع بين الشركاء التقليديين والإستثمارات الجديدة. وجود لاعبين كبار مثل إكسون موبيل، شيفرون، CNPC، BP إلى جانب إيني وتوتال يعكس قدرة الجزائر على إعادة تموقعها في السوق العالمية للطاقة.
استراتيجية تتقاطع مع رؤية الاستثمار 2024–2028
الخطة الحكومية التي خصصت 3.5 مليار دولار لزيادة الاحتياطات وتحسين استغلال المكامن بين 2024 و2028، تعتمد بدورها على مبدأ الشراكات المتنوعة لتسريع وتوسيع رقعة الاستكشافات، بما في ذلك المشاريع البحرية التي تمثل مستقبل الطاقة في البلاد.
يتجه قطاع المحروقات في الجزائر نحو مرحلة جديدة عنوانها التعددية في الشراكات والتنافسية في التكنولوجيا. ويمثل هذا الخيار خطوة محسوبة لتعزيز الإنتاج، تنويع مصادر الاستثمار، وتقوية مكانة الجزائر كمزوّد موثوق للطاقة، خصوصًا في السوق الأوروبية.
ففي عالم تتغير فيه خرائط الطاقة بسرعة، يبدو أن الجزائر اختارت أن تبني قوتها التفاوضية على قاعدة من التنوع بدل الارتهان لشريك واحد أو محور واحد—وهو ما قد يشكل أحد أهم التحولات في سياساتها الطاقية خلال العقد الأخير.

