الرئيسيةآخر الأخبارالشحن الجوي في تونس: فرصة ضائعة أم قصة ما زالت تُكتب؟

الشحن الجوي في تونس: فرصة ضائعة أم قصة ما زالت تُكتب؟

الشحن الجوي في تونس لم يعد ملفًا تقنيًا هامشيًا، بل أصبح موضوع نقاش جدي بين أهل الاختصاص والخبراء الاقتصاديين، خاصة عندما توضع الأرقام على الطاولة. فوفق معطيات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، لا يمثّل الشحن الجوي سوى أقل من 1% من حجم التجارة العالمية، لكنه يستحوذ على ما يقارب 35% من قيمتها المالية، أي أنّ ثلث قيمة التجارة العالمية تقريبًا يُنقل جوًا. هذا المعطى وحده يفسّر لماذا تحوّل الشحن الجوي إلى مصدر دخل استراتيجي لشركات الطيران الكبرى، حيث يوفّر ما بين 20 و30% من مداخيلها السنوية، وتجاوزت عائداته عالميًا 200 مليار دولار سنويًا.

اقتصاديًا، لا تقتصر أهمية الشحن الجوي على العائدات المباشرة. فالدراسات اللوجستية تُظهر أنّ كل دولار يُستثمر في هذا القطاع يخلق ما بين 3 و5 دولارات في الاقتصاد المحيط، عبر التخزين، والخدمات اللوجستية، والتأمين، والصناعات المرتبطة بالمطارات، إضافة إلى مواطن شغل عالية التأهيل. في مطارات محورية مثل دبي أو إسطنبول أو الدوحة، تحوّل الشحن الجوي إلى ركيزة أساسية تدرّ مئات ملايين الدولارات سنويًا، وتسهم في خلق عشرات آلاف الوظائف، وتُعزّز موقع هذه المدن كمراكز توزيع عالمية.

في تونس، تبدو المفارقة واضحة عند مقارنة هذه الأرقام بالإمكانات المتاحة. فالنقل الجوي للبضائع لا يزال محدودًا ويُحتسب في أغلبه ضمن نشاط نقل المسافرين، عبر بطن الطائرات، دون وجود شبكة شحن مهيكلة أو شركة وطنية مستقرة مختصة. وتُشير تقديرات مهنيي القطاع إلى أنّ حجم الشحن الجوي التونسي يبقى ضعيفًا مقارنة بدول أقلّ تموقعًا جغرافيًا، رغم أنّ البلاد تصدّر منتجات ذات قيمة عالية بطبيعتها مثل مكوّنات السيارات، والأسلاك الكهربائية، والأدوية، وقطع الغيار الصناعية، وهي كلها سلع تعتمد أساسًا على النقل الجوي.

الأرقام التقديرية المتداولة بين المختصين تفيد بأنّ تونس، لو اعتمدت استراتيجية واضحة للشحن الجوي، يمكنها خلال خمس إلى سبع سنوات مضاعفة حجم نشاطها الحالي ثلاث مرات على الأقل. هذا السيناريو لا يتطلّب استثمارات ثقيلة في أسطول ضخم، بقدر ما يحتاج إلى إعادة تنظيم الإطار القانوني، وتسريع الإجراءات الديوانية، وربط المطارات بالمناطق الصناعية. وفي هذه الحالة، يمكن للشحن الجوي أن يوفّر مداخيل مباشرة وغير مباشرة بعشرات ملايين الدولارات سنويًا، إضافة إلى آلاف مواطن الشغل، مع تحسين مردودية المطارات التي تعاني اليوم من ضعف الاستغلال.

عودة النقاش حول الشحن الجوي في تونس ترتبط أيضًا بالسياق الدولي. فبعد جائحة كوفيد-19، ارتفع الطلب العالمي على الشحن الجوي بأكثر من 20% في بعض الفترات، نتيجة تعطّل النقل البحري والحاجة إلى السرعة والأمان. كما أنّ إفريقيا، رغم أنّها لا تمثّل سوى أقل من 3% من حركة الشحن الجوي العالمية، تُعدّ القارة الأسرع نموًا في هذا المجال، وهو ما يجعل التموقع المبكر عاملًا حاسمًا. في هذا السياق، يرى الخبراء أنّ تونس كان يمكن أن تلعب دور منصة ربط بين أوروبا وإفريقيا، مستفيدة من قربها الجغرافي وزمن الرحلات القصير الذي لا يتجاوز ساعتين إلى أغلب العواصم الأوروبية.

النقاش الحقيقي بين أهل الاختصاص لا يدور حول جدوى الشحن الجوي، فالأرقام العالمية تحسم ذلك، بل حول غياب قرار وطني واضح يجعل منه أولوية اقتصادية. فحين يُظهر قطاع واحد قدرته على خلق قيمة مضافة مرتفعة بهذا الحجم، يصبح تجاهله خيارًا مكلفًا. ويجمع عدد من الخبراء على أنّ الخسارة لا تُقاس فقط بما لم يُربح، بل بما ضاع من فرص تموقع إقليمي واستقطاب استثمارات.

خلاصة النقاش المدعّم بالأرقام واضحة: الشحن الجوي ليس ترفًا ولا نشاطًا ثانويًا، بل أداة سيادية لربح الزمن الاقتصادي والقيمة المضافة. تونس تملك المقومات، والأرقام تؤكد حجم الفرصة، لكن تحويل الإمكانيات إلى مكاسب فعلية يظل رهين قرار سياسي واضح واستراتيجية وطنية تُخرج الشحن الجوي من الهامش إلى قلب السياسات الاقتصادية.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!