سلط تقرير حديث للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) الضوء على الرهانات والاستراتيجيات في منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا، مؤكدا أن “الإطاحة ببشار الأسد دفعت موسكو إلى التخلي عن نموذجها المتمركز حول سوريا والتحول نحو استراتيجية مستدامة في المتوسط، خاصة في شمال إفريقيا، محوّلة ليبيا إلى قلب بنية جديدة متعددة الشركاء مدفوعة بالبنية التحتية لمشروع القوة الروسية”.
وسجل التقرير ذاته أن “التدخل الروسي في سوريا، الذي بدأ في سبتمبر 2015، حقق أكثر من مجرد دعم نظام متداعٍ في دمشق؛ فقد منح موسكو أهم منشأة بحرية على المياه الدافئة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ إذ وفرت قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية للروس قدرات إسقاط قوة غير مسبوقة عبر شرق المتوسط، مما غيّر ديناميكيات القوة الإقليمية بشكل جذري”.
وذكر المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية أن التحركات الروسية بعد هذا التطور تشير إلى “جهد متعمد لبناء وجود متنوع ومرن في البحر الأبيض المتوسط، أقل عرضة للاضطرابات السياسية المفاجئة أو نقاط الفشل الفردية”، مبرزا أن “هذا التغيير تجلّى بشكل واضح من خلال توسيع عمليات فيلق إفريقيا”.
وتابع المصدر ذاته بأن “ليبيا برزت كنقطة تركيز روسية أساسية في البحر الأبيض المتوسط بالنظر إلى الاعتبارات الجغرافية والفرص الاستراتيجية؛ إذ يوفر موقعها الفريد لموسكو ثلاث مزايا استراتيجية، هي الوصول البحري إلى خطوط الشحن الحيوية، وقربها من الاتحاد الأوروبي والحدود الجنوبية لحلف الناتو، والممرات البرية الممتدة عميقا في إفريقيا جنوب الصحراء”.
وبين التقرير أن “الحضور الروسي اليوم في ليبيا يظهر خصائص مختلفة نوعيا، ممثلة في العلاقات الاستشارية العسكرية المستمرة، وشبكات دفاع جوي متكاملة، وتنسيق في تطوير البنية التحتية”، معتبرا أن “هذه القدرة مزدوجة الاستخدام تمثل نموذجا للتطور الروسي المتجلي في تعظيم النفوذ الاستراتيجي من خلال استثمارات وبنية تحتية وشراكات محددة بعناية”.
ولفت إلى أن “ظهور أسلحة روسية متقدمة في الاستعراض العسكري الذي أجراه خليفة حفتر في ماي الماضي يشير إلى التزام روسيا بتجاوز العلاقات التجارية البحتة ليشمل ضمانات أمنية شاملة، وهو تحول نوعي نحو منطقة بناء الشراكات الاستراتيجية”.
وأوضحت الوثيقة نفسها أن “استراتيجية روسيا في شمال إفريقيا تعكس فهما متقدما للواقع الجيو-سياسي المعاصر؛ فمشاريع القوة الأحادية أصبحت قديمة وتواجه قيودا متزايدة في عصر القوى المتوسطة التي عززت نفوذها الموزع ومواردها. وبالتالي، عملت موسكو على تطوير شراكات مؤسسية لتعظيم نفوذها الاستراتيجي مع توزيع الأعباء التشغيلية”.
في المقابل، ذكر التقرير أن “تداعيات تعزيز روسيا لوجودها في شمال إفريقيا تمتد إلى أبعد من المنافسة الإقليمية على السلطة؛ فهي قد غيّرت حسابات الأمن الأوروبي بشكل جوهري.
فوجود القوات الروسية في شرق ليبيا وتوسعها في ممر البحر الأحمر في السودان يضع قوات موسكو على بعد دقائق طيران من أجواء الناتو في مالطا وقريبة من البنية التحتية الحيوية للطاقة في إيطاليا بصواريخ قصيرة المدى”، مؤكدا أن “هذا القرب يحوّل المنافسة الجيو-سياسية المجردة إلى اعتبارات أمنية ملموسة”.
وسجل المصدر أن “استراتيجية روسيا بعد سوريا تمثل نضجا استراتيجيا أكثر منها تراجعا، فالانتقال من المغامرة الإيديولوجية إلى القوة الصلبة المؤسسية يعكس الدروس المستفادة من نقاط ضعف سوريا والقيود الجيو-سياسية الأوسع”، معتبرا أن “استراتيجية التثبيت هذه تشير إلى إدراك روسيا أن النفوذ الدائم يتطلب أسسا مؤسسية، وشراكات متعددة الأطراف، وتنوعا جغرافيا. ويُبرزُ التركيز على تطوير البنية التحتية والعلاقات الاستشارية وبناء التحالفات التزامَ موسكو بالحضور طويل المدى بدل الانخراط العابر”.
وخلص المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية إلى أنه “بالنسبة لصانعي السياسات الأوروبيين، يتطلب هذا التطور تكيّفا استراتيجيا مماثلا. فالنهج التقليدي الذي يركّز على العقوبات والعزلة الدبلوماسية يجب أن يُستبدل باستراتيجيات شاملة تشمل تنسيق الاستخبارات، ودعم الحوكمة، وتطوير السرد المضاد. والتحدي لا يكمن فقط في احتواء النفوذ الروسي، بل في تقديم بدائل قابلة للتصديق تلبي الاحتياجات الأمنية والتنموية المشروعة، وتوفر بديلا سياسيا حقيقيا للفوضى التي اجتاحت ليبيا على مدى العقد الماضي”.

