صدرت يوم 29 ديسمبر 2025 النسخة الثانية من تقرير “الجاهزية لممارسة الأعمال” (Business Ready – B-READY) عن مجموعة البنك الدولي، وهو التقرير الذي حلّ رسميًا محل تصنيف “ممارسة أنشطة الأعمال” (Doing Business)، ويهدف إلى تقييم مناخ الأعمال في مختلف دول العالم وفق مقاربة جديدة أكثر شمولًا.
نتيجة إجمالية تعكس وضعًا متوسطًا
وحسب المعطيات الواردة في التقرير، فقد حصلت تونس على نتيجة إجمالية في حدود 62 نقطة من أصل 100 في مؤشر “جاهزية ممارسة الأعمال”، وهو تقييم يضع البلاد في مستوى متوسط مقارنة بالمعايير الدولية، ضمن عينة موسّعة شملت أكثر من 100 اقتصاد عالمي.
ويستند هذا المؤشر إلى تحليل معمّق لبيئة الأعمال، انطلاقًا من القوانين المنظمة، وجودة الخدمات العمومية، وصولًا إلى الكفاءة الفعلية للإجراءات كما تعيشها المؤسسات الاقتصادية على أرض الواقع.
ثلاث ركائز أساسية للتقييم
يعتمد تقرير Business Ready على ثلاث ركائز مترابطة:
- الإطار التنظيمي: ويقيس جودة القوانين والتشريعات المؤطرة لنشاط المؤسسات.
- جودة الخدمات العمومية: وتشمل أداء الإدارات، الرقمنة، وإتاحة المعلومات.
- الكفاءة التشغيلية: وتعكس واقع التطبيق، من خلال مسح المقاولات الذي ينجزه البنك الدولي دوريًا.
وفي حالة تونس، يشير التقرير إلى أن الإطار القانوني والتنظيمي ما يزال يشكّل نقطة قوة نسبية، غير أن الفجوة تظهر أساسًا على مستوى التنفيذ والكفاءة العملية.
أداء متفاوت حسب المحاور
يقيم التقرير عشرة محاور تغطي دورة حياة المؤسسة الاقتصادية، من التأسيس إلى التصفية. وبالنسبة إلى تونس، تبرز ملاحظات أساسية، من بينها:
- تأسيس المقاولات: إطار قانوني موجود، لكن الإجراءات العملية ما تزال تُعدّ معقدة وبطيئة نسبيًا.
- الخدمات المالية: تسجيل مستوى متوسط من حيث النفاذ إلى التمويل وجودة التنظيم.
- تسوية النزاعات التجارية: وجود منظومة قانونية قائمة، مقابل بطء في الفصل والتنفيذ.
- التجارة الدولية: تحديات مرتبطة بالإجراءات، والآجال، وتكلفة المعاملات.
ويخلص التقرير إلى أن الإشكال في تونس لا يرتبط بغياب القوانين بقدر ما يرتبط بضعف نجاعة تطبيقها.
مقارنة إقليمية غير مباشرة
في السياق الإقليمي، يأتي صدور التقرير متزامنًا مع تسجيل المغرب تقدّمًا ملحوظًا في نفس النسخة، متجاوزًا المعدل العالمي، وهو ما يعيد طرح مسألة التنافسية الإقليمية بين دول شمال إفريقيا، خاصة في ظل سعيها جميعًا إلى استقطاب الاستثمار الأجنبي.
وبينما أحرزت دول أخرى نقاطًا متقدمة بفضل الرقمنة، وتبسيط الإجراءات، وتحسين العلاقة بين الإدارة والمستثمر، لا تزال تونس مطالبة بتسريع إصلاحاتها الهيكلية حتى لا تفقد موقعها النسبي.
آفاق الإصلاح والتوصيات
يؤكد تقرير البنك الدولي أن لتونس إمكانات حقيقية لتحسين ترتيبها ونتائجها خلال السنوات القادمة، شريطة:
- تسريع رقمنة الخدمات العمومية،
- تحسين تبادل المعطيات بين الإدارات،
- تقليص آجال الإجراءات وكلفتها،
- تعزيز الشفافية وإتاحة البيانات المفتوحة،
- وتحسين مناخ الثقة بين الدولة والفاعلين الاقتصاديين.
يعكس إدراج تونس في النسخة الثانية من تقرير Business Ready اعترافًا بأهمية الاقتصاد التونسي ضمن المنظومة العالمية، لكنه في الوقت ذاته يدق ناقوس التنبيه بشأن محدودية نجاعة الإصلاحات على المستوى التطبيقي.
وبين نصوص قانونية متقدمة نسبيًا وواقع إداري يفرض تحديات متواصلة، يضع تقرير البنك الدولي صانعي القرار في تونس أمام اختبار واضح: إما تحويل القوانين إلى نتائج ملموسة، أو استمرار التراجع في سباق الجاذبية الاقتصادية إقليميًا ودوليًا.
مقارنة إفريقية وعربية: أين تتموقع تونس؟
في السياقين الإفريقي والعربي، يمكن تصنيف موقع تونس في تقرير Business Ready 2025 ضمن الشريحة المتوسطة العليا، لكنها لم تعد ضمن مجموعة الدول القائدة كما كان الحال في مراحل سابقة من تصنيفات مناخ الأعمال.
إفريقيًا: تقدّم تشريعي وتأخر تطبيقي
على المستوى الإفريقي، تتفوّق تونس من حيث:
- الإطار القانوني والتنظيمي،
- مستوى تكوين الموارد البشرية،
- تنوّع النسيج الاقتصادي مقارنة بعدد كبير من الاقتصادات الإفريقية جنوب الصحراء.
غير أن التقرير يُظهر في المقابل أن تونس:
- أبطأ من دول إفريقية صاعدة مثل رواندا وموريشيوس وكينيا في ما يتعلق بالكفاءة التشغيلية،
- أقل ديناميكية في رقمنة الخدمات وتبسيط المسارات الإدارية،
- وأكثر تأثرًا بثقل البيروقراطية مقارنة ببعض الدول التي اعتمدت إصلاحات جذرية وسريعة.
وبذلك، لم تعد تونس “النموذج الإفريقي المتقدّم”، بل أصبحت اقتصادًا ذا مؤسسات قانونية قوية لكن أداء إداري متعثّر.
عربيًا: موقع وسط بين الخليج والمغرب العربي
أما عربيًا، فتتموقع تونس:
- دون دول الخليج التي استفادت من الرقمنة الواسعة، وسرعة الخدمات، ووضوح الرؤية الاستثمارية،
- وقريبة من متوسط الدول العربية من حيث النتيجة الإجمالية.
في المقابل، سجّل التقرير:
- تقدّمًا واضحًا للمغرب الذي تجاوز المعدلات العربية والإفريقية والعالمية،
- في حين بقيت تونس في مستوى أقل من حيث الجاذبية الاستثمارية العملية، رغم تقارب الإطار القانوني.
وهنا يبرز الفرق الجوهري:
دول مثل المغرب والبحرين والإمارات انتقلت من منطق الإصلاح القانوني إلى منطق “النتيجة القابلة للقياس”،
بينما لا تزال تونس عالقة بين الإصلاح المُعلن والإصلاح المُنجز.
الخلاصة المقارنة
يمكن القول إن تونس:
- أفضل من عدد كبير من الدول الإفريقية والعربية من حيث التشريعات والقدرات البشرية،
- لكنها أضعف من الدول الرائدة في تحويل القوانين إلى خدمات فعّالة وسريعة.
ويخلص تقرير Business Ready، بشكل غير مباشر، إلى أن التحدي الحقيقي لتونس لم يعد في “ماذا تقول القوانين؟”، بل في كيف تعمل الإدارة؟ وكم من الوقت والكلفة يتحمّلها المستثمر؟.
وبذلك، فإن موقع تونس اليوم هو اقتصاد ذو إمكانات عالية، لكنه مقيّد بضعف الكفاءة التشغيلية، في وقت تتسابق فيه الدول الإفريقية والعربية على كسب ثقة المستثمر عبر السرعة، والوضوح، والرقمنة.

