من مرسيليا إلى قلب جبال الألب، ومن الأسواق التجارية إلى ساحات المعارك، يكشف التاريخ عن بصمة قرطاج العميقة في بلاد الغال، تلك البصمة التي لم تقتصر على تبادل السلع بل شملت تحالفات سياسية وعسكرية غيّرت موازين القوى في البحر المتوسط.
التجارة أول جسور التواصل
عندما نُقّبت المواقع الأثرية في فرنسا وإيطاليا، اكتُشفت عملات قرطاجية من نوع “الشيكل”، ضُربت بين القرن الرابع والثاني قبل الميلاد. هذه العملات لم تكن مجرد وسيلة للتداول، بل هي دليل على طرق تجارية منظمة ربطت شمال إفريقيا بشمال المتوسط.
كانت المعادن والسلع النفيسة تتدفق من أوروبا، فيما صدّرت قرطاج الزيت والنبيذ والفخار، ما جعلها قوة تجارية كبرى ووسيطاً رئيسياً في التبادلات العابرة للمتوسط.
الفخار القرطاجي في مرسيليا
في مرسيليا (ماسليا القديمة)، اكتشفت بعثات أثرية أمفورات قرطاجية استخدمت أساساً في نقل الزيت والنبيذ. لكن قيمتها لا تكمن فقط في وظيفتها العملية، بل أيضاً في أسلوبها الفني والتقني الذي أثر في الصناعات المحلية.
المثير أن بعض الورش الغالية استعارت تقنيات قرطاجية في معالجة الطين والزخرفة، وهو ما يكشف عن تبادل ثقافي تجاوز حدود التجارة، ليصبح نوعاً من التلاقح الحضاري.
لكن التأثير القرطاجي لم يتوقف عند الاقتصاد والثقافة، بل امتد إلى الميدان العسكري. فعندما قاد القائد القرطاجي حنبعل جيشه الشهير بعبور جبال الألب نحو روما، لم يكن وحده.
انضمت إليه قبائل غالية عديدة، أبرزها الآلوبروجيز في الغال الكيسالبينية (شمال إيطاليا). هذه التحالفات، التي وصفها بعض المؤرخين الرومان بشكل تقليصي باعتبارها “مرتزقة”، تكشف في الواقع عن شراكة استراتيجية مبنية على هدف مشترك: التصدي للزحف الروماني.
لقد رأى الغاليون في قرطاج حليفاً طبيعياً، لا مجرد قوة عابرة، بينما وجد هنيبعل في دعمهم سنداً عسكرياً وسياسياً ساعده على إرباك روما في عقر دارها.

ما وراء التجارة والحروب
من العملات والفخار إلى التحالفات العسكرية، يتضح أن علاقة قرطاج بالغال كانت شاملة ومتعددة الأبعاد. فهي لم تقتصر على المبادلات التجارية ولا على التعاون الحربي، بل أسست لنموذج مبكر من التكامل المتوسطي حيث تلاقت مصالح الشعوب في وجه الهيمنة الرومانية.
إرث ما زال حياً
اليوم، ومعارض مثل هذا الذي أقيم في فرنسا، تعيد إلى الذاكرة أن قرطاج لم تكن مجرد مدينة بحرية على الضفة الجنوبية، بل قوة حضارية تركت بصمة لا تُمحى في شمال المتوسط.
هذا الإرث يشهد على أن المتوسط لم يكن يوماً بحراً فاصلاً بين الشعوب، بل كان دائماً جسراً للتواصل والتبادل والتحالفات، وأن قرطاج لعبت دوراً محورياً في صياغة هذه الهوية المشتركة.

