الرئيسيةآخر الأخبارحين تفشل السياسة تنهار الهياكل – حالة عمادة المهندسين المعماريين في تونس-بقلم...

حين تفشل السياسة تنهار الهياكل – حالة عمادة المهندسين المعماريين في تونس-بقلم إلياس بلاغة*

قد يبدو هذا التعبير نظريًا أو شعريًا، لكنه في تونس حقيقة ملموسة. فحين تفشل السياسة بمعناها الأوسع – أي سياسة الدولة، والمؤسسات، والأحزاب، وأخلاقيات المصلحة العامة – فإن الهياكل الوسيطة، التي من المفترض أن تشكل حصنًا واقيًا، تتصدع بدورها وتفقد معناها. وعمادة المهندسين المعماريين في تونس مثالٌ صارخٌ على ذلك.

 سياسة وطنية مشلولة

تمرّ تونس منذ سنوات بأزمة سياسية بنيوية. انعدام الثقة في الأحزاب، وتركيز السلطة، وانهيار آليات الحوار، وغياب النخب عن المشهد العام: كل ذلك أدى إلى مناخ من الشلل الديمقراطي. ووسط هذا الفراغ من الرؤية والطموح، لم تسلم المؤسسات المهنية من التداعيات، بل امتدت العدوى إلى كل من يُفترض أن يكون حاملًا لقيم أخلاقية وثقافية ومهنية.

ومن السذاجة أن نعتقد بأن الهياكل المهنية ستبقى بمنأى عن هذا الانهيار. فعندما تخون السياسة وعودها، تتحول هذه الهياكل إما إلى أصداف فارغة، أو إلى أدوات تابعة للسلطة.

عمادة المعماريين: مرآةٌ لنظامٍ متآكل

لقد تأسست عمادة المهندسين المعماريين في تونس لتأطير المهنة، والدفاع عنها، وإعلاء شأنها، لكنها منذ سنوات تعاني من عجز في التمثيلية، وضبابية في الرؤية، وغياب في الموقف. تحوّلت مهمتها إلى روتين إداري، وضعفت سلطتها الرمزية، وغابت كليًّا عن النقاش العام. بل إنّها أصبحت – في نظر عددٍ متزايد من المعماريين – مجرّد جهازٍ بيروقراطيٍّ عاجز، لا يملك الإرادة ولا الاستقلالية.

ولا تكمن المشكلة في البنية التنظيمية فقط، بل في جوهرها السياسي. فكما هو الحال في السياسة العامة، تعمل العمادة بمنطق المحاصصة، والولاءات، والصفقات الصامتة. ولا يُفسح فيها المجال للرأي الناقد، ولا للطاقات الشابة، ولا للبدائل الجذرية.

 مصيران متشابكان

إنّ هذا التوازي بين الأزمة السياسية الوطنية وأزمة العمادة ليس صدفة. فهما ينبعان من نفس المنظومة العقلية:

– سلطة تُدار بمنطق الكراسي لا المشاريع،

– إقصاءٌ ممنهج للأطراف (الشباب، النساء، الجهات)،

– عداءٌ ضمنيٌ للفكر الحر،

– غياب أفق جماعي جامع.

وفي كلتا الحالتين، تُصبح الأخلاق مجرّد شعار فارغ لا يُترجم إلى ممارسة. والوجوه تتكرر، والخطاب يتجدد شكليًّا بينما البنية تبقى كما هي.

لذلك من الخطأ أن نعتقد أن ما يحصل داخل العمادة مسألة تقنية أو داخلية فقط. إنها، في عمقها، صورة مصغرة لأزمة تونس.

 نحو إعادة بناء مشتركة

في المقابل، فإنّ أي نهضة سياسية حقيقية لا يمكن أن تتحقق دون إصلاح جذري للهياكل الوسيطة. فهي المدرسة الأولى للمواطنة، ومختبر التضامن، ومجال الفعل الجماعي الحقيقي.

ولا بدّ أن تتحوّل عمادة المعماريين من مجرّد هيكل إداري إلى فضاء مقاومة ضد تحويل العمران إلى سلعة، وضد احتقار التخطيط الحضري للكرامة، وضد سياسات الريع العمراني. لا بدّ أن تنطق باسم مشروعٍ مجتمعيٍّ واضح، لأن المعمار شأنٌ عام، يؤثر في حياتنا، ويعكس اختيارات حضارية عميقة.

لقد حان وقت مغادرة صالونات اللجان التقنية، والعودة إلى جوهر الفعل: إعادة إدخال السياسة إلى النقاش المهني، بمعناها النبيل: أي التفكير المشترك في ما هو عادل، وما هو إنساني، وما هو ممكن

    * الياس بلاغة الرئيس السابق لعمادة المهندسين المعماريين

    مقالات ذات صلة
    - Advertisment -

    الأكثر شهرة

    مواضيع أخرى

    error: Content is protected !!