في أحد مقاطع الفيديو التي اجتاحت مواقع التواصل في تونس، ظهر ميكانيكي تونسي بسيط – نُطلق عليه من باب المحبة “الطيب الميكانسيان” – وهو يُحلّل، بكل ثقة لا يُضاهى، كيفية تصنيع محرّك سيارة BMW، ليؤكد أن الشركة الألمانية وقعت في خطأ فادح، لا يغفره المنطق ولا زيت المحرك، بل وربما لا يغفره التاريخ التقني الحديث!
الشركة، التي تأسست عام 1916 وتُنتج أكثر من 1500 سيارة يوميًا في أكبر مصانعها بالولايات المتحدة، والتي باعت في سنة واحدة فقط (2024) أكثر من 2.5 مليون سيارة حول العالم… تقف اليوم مبهوتة أمام فيديو مدته 50 ثانية، يفكّك فيه الطيب أسرار فشلهم في ضبط “القطايع” في بلايصها، ويُثبت بثقة فلكية أن “سلعتهم مضروبة”.كما تقول الصحفية منية العرفاوي في اخر تدويناتها .
لكن لا تستعجل الضحك. فالميكانسيان ليس حالة معزولة. هو ابن مدرسة فكرية “شعبية” اتسعت رقعتها. فقبلها، تابعنا نقاشًا ملتهبًا بين مواطنين حول تقرير طبي شرعي في جريمة وفاة الراحل لطفي نقض حيث تحوّل بائع عصير إلى خبير في علم السموم، وزبون المقهى إلى مختص في الطب الشرعي.
ولعلّ أكثر ما يثير الدهشة — أو القلق — هو عودة نظرية “الأرض المسطحة” إلى الواجهة، حيث يصرّ كثير من التونسيين على أن الكوكب ما هو إلا قرص بيتزا، تدور حوله الشمس مثل ذبابة مضيّعة طريقها. وإذا تحدّثتَ عن الفضاء أو الأقمار الصناعية، انهالت عليك الأسئلة “المقنعة”: لماذا لا تسقط النجوم؟ ولماذا لا تشتعل الطائرات من حرارة الشمس؟ وهل فعلاً طارت ناسا للقمر ولا صوروه في قفصة؟
كل ذلك يُذكّرنا بواحد من أخطر الانحيازات المعرفية: تأثير دانينغ-كروجر. وهي الظاهرة التي تجعل غير العارف مقتنعًا أنه أذكى من الجميع، فقط لأنه لا يعرف ما لا يعرفه. وبهذه القناعة، يُصبح النقاش مع “الخبير الشعبي” مضيعة للوقت، بل وقد تتّهم بأنك مأجور أو “تابع لوكالة المخابرات الأمريكية”!
وبين نظريات حول “الأسلحة التي لم تصب أهدافها في إيران”، و”أسرار الشيعة”، و”طريقة عمل المخابرات الأمريكية”، يُطالعك بائع الخبز أو سائق التاكسي بتحليلات لا يجرؤ على قولها مدير الـCIA نفسه، مصحوبة بنظرات استعلاء تقول: “أنا نعرف، إنت ماكش فاهم”.
ربما في الاثنين. نحن أمام ثقافة تشهد تضخمًا في الشعور بالمعرفة مقابل ضمور في أدوات التثبّت منها. فالانترنت جعل كل شيء متاحًا، لكن عوض أن يبحث الناس عن الحقيقة، باتوا يبحثون عن ما يُؤكّد قناعاتهم المسبقة.
الطيب الميكانسيان، رغم بساطته، ليس مضحكًا فقط… بل هو مرآة لمجتمع يتكلم عن كل شيء بثقة العارف، لكنه يتهرب من أبسط سؤال: “هل أنا متأكد؟”
منحنى تأثير دانينغ كـروجر Dunning Kruger Effect
هي دراسة طويلة معقدة هدفها رصد تدرج مستوى التفكير والخبرات والمهارات الخ … المهم ، نتيجتها رسم علاقة بين مستوى ( الثقة ) و ( المعرفة ) لأي شخص ..
– في المستوى الأول أنت جـاهل ومعرفتك محدودة جداً .. في نفس الوقت ثقتك بنفسك ( وأنت جاهل ) مرتفعة جداً ، إلى أن تصل إلى ما يسمى قمة الغباء (Peak Of Stupidity)
بمرور الوقت ، تبدأ تحس بغبائك .. فتبدأ ثقتك في نفسـك تنهـار تدريجياً نتيجة لتعرفك على مصدر معرفي ورصد للظواهر محيطة بعين المعرفة.. إلى أن تصل لقــاع الشك أو اليأس ، او (Valley of Despair )
وجودك في قاع الشك يجعلك تسعى للمعرفة بشكل أكبر ، فتبدأ تتعلم وتعرف وتقرا وتفهم ، وعيك يزيد ، وثقتك تبدأ تزيد تدريجياً مرة أخرى مدعـومة بالمعرفة، وليس الجهـل- ثم تصل لمرحلة التنويـر:( Slope Of Enlightenment )
المنطقة الوسطى التي تجعلك أكثر حكمة وهدوء ووعي ، وبوادر قدرة على التمييز بين المفيد والفارغ ..
– إلى إن ترتحل لمنطقـة معرفية متقدمة تجعلك تضمن استمرار تحصيلك المعرفي، وزيادة ثقتك بنفسك إلى أن تبلغ حالة :Plateau of sustainability
أو العالم أو العارف أو الخبير ..
– وعندما تصل إلى مرحلة العالِم ، الفاهم ، الخبير .. يصبح لديك وعي كافي على انك واعي ، وتشعر بوعي كافي لإدراك ذكاء وغباء الآخرين ودرجة وعيهم، وقادر على تمييّـز أنت أين تقف .. ثقتك في نفسك تكون عالية ، ( لكن تكون أقل من ثقـة الجاهل بنفسه )..
المنحنى يفسر لك كل ظواهر الحياة تقريباً فردياً واجتماعياً .. عملك .. حياتك .. مستواك الوظيفي .. الإرهاب .. التطرف الديني .. مستوى العصبية في المجتمع .. الاكتئاب.. تطور وتخلف دول .. تنميتك لمهارة جديدة .. الخ ..
جميعنا نمر بما يسمى بتأثير دانينغ كروجر بكل مراحله ، لا يوجد احد يولد من بطن أمه وهو نابغة .. ويجب ان نساعد بعضنا البعض ، أو نتحمل بعض على الأقل .. لكن الخطر إن أغلبية الناس لا يخرجون من ( قمة الغباء) Peak Of Stupidity
وبعضهم الأخر يبقى طول حياته في (وادي اليأس) Valley of Despair
الفئتين هؤلاء هما سبب تعاسة أي مجتمع أو أسرة أو تجمّع او ..الخ ..هم تعاسة البشرية.. غالبا صوتهم عالي ، جهلة ، متخلفين ، أشرار ، عصبيين ، مزعجين ، شتّـامين .منافقين. ببساطة لأن هذه هي ملامح المرحلة التى هما فيها ، ولا يعلمون حتى أنهم فيها فما بالكم بإخراجهم كما نحاول جاهدين في هذه المجموعة.
ملحوظة : الانحدار ما بين مرحلتي ( قمة الغباء ) و ( قاع الشك )أو (وادي اليأس) في بعض الرسومات اسمه : منطقــة انهيار البرمجة Program Termination Zone
.. تعني معنى قريب من انهيار الشيء الذي أنت مبرمج عليه مسبقاً
