في مثل هذا اليوم في الثالث والعشرين من أوت سنة 846، شهدت روما هجوماً غير مسبوق حين وصلت أساطيل الأغالبة، المنطلقة من القيروان، إلى ميناء أوستيا على نهر التيبر. وبينما اعتقدت أوروبا المسيحية في ذلك الوقت أنّ “قلب المسيحية” بعيد عن خطر الغزوات البحرية، جاءت هذه الضربة المفاجئة لتكشف هشاشة المدينة وتترك آثاراً عميقة في تاريخها الديني والسياسي.
من هم الأغالبة؟
الأغالبة أسرة عربية حكمت إفريقية (تونس الحالية وأجزاء من الجزائر وليبيا) بين سنتي 800 و909 م تحت مظلة الخلافة العباسية. وقد عرف عهدهم بالازدهار الحضاري والعمراني، كما برعوا في تنظيم الأساطيل البحرية التي جابت المتوسط. وكانوا القوة الإسلامية الأكثر نشاطاً في البحر خلال القرن التاسع، حيث شنّوا غزوات على صقلية وسواحل إيطاليا وجزر المتوسط.
تفاصيل الغزوة
في فجر 23 أوت 846، تقدمت السفن الأغلبية عبر نهر التيبر لتصل إلى أبواب روما. وجدت القوات الرومانية نفسها عاجزة عن المواجهة، فانسحبت خلف “السور الأوريلياني” الذي كان يحيط بجزء من المدينة، تاركة البازيليكات الكبرى – القديس بطرس والقديس بولس خارج الأسوار – بلا دفاع.
نهب الأغالبة الكنوز والهدايا الثمينة التي كانت تزين هذين الموقعين المقدسين، وهو ما اعتبر إهانة غير مسبوقة للمسيحية الغربية وهزّ وجدان أوروبا المسيحية آنذاك.
تداعيات الحدث: ولادة السور الليونيني
الهجوم مثّل صدمة كبرى للبابا ليون الرابع (847–855). فقد أدرك أن روما لم تعد محصنة بما يكفي، وأن الكنيسة نفسها باتت عرضة للخطر. لذلك اتخذ قراراً تاريخياً ببناء “السور الليونيني”، وهو تحصين ضخم شُيّد ما بين 848 و852 ليحيط بكاتدرائية القديس بطرس والمنطقة المجاورة لها.
هذا السور غيّر المشهد العمراني للمدينة، إذ حوّل الفاتيكان إلى فضاء محصّن ومستقل نسبياً عن باقي روما، وهو ما اعتُبر النواة الأولى لتكوّن “دولة الفاتيكان” التي ستنشأ رسمياً بعد قرون طويلة.
الأغالبة والفاتيكان: علاقة غير متوقعة
من المفارقات التاريخية أنّ قوة إسلامية من شمال إفريقيا ساهمت – بشكل غير مباشر – في ظهور أصغر دولة في العالم وأكثرها تأثيراً دينياً. فلو لم تقع غزوة 846، ربما ما كان البابا ليون الرابع سيفكر في تحصين الفاتيكان، وما كان لهذا الكيان أن يتطور إلى رمز عالمي للكنيسة الكاثوليكية.
قراءة في الدلالات
- عسكرياً: أظهرت الغزوة قدرة الأغالبة على نقل المعارك إلى قلب أوروبا، وكشفت ضعف المنظومة الدفاعية الرومانية.
- سياسياً ودينياً: سرّعت الأحداث من وعي الكنيسة الكاثوليكية بضرورة استقلاليتها وحماية رموزها بعيداً عن السلطة الزمنية.
- حضارياً: رغم أن الغزوة ارتبطت بالنهب والتدمير، إلا أنّها شكّلت منعطفاً أدى إلى ولادة واحدة من أهم المؤسسات الدينية في التاريخ.
خاتمة
غزوة الأغالبة لروما سنة 846 ليست مجرد حادثة عسكرية عابرة، بل نقطة تحوّل فارقة في تاريخ الغرب المسيحي. فقد ولّدت صدمة أعادت تشكيل جغرافية روما وأرست الأساس لنشأة الفاتيكان. وفي هذا تكمن المفارقة: هجوم إسلامي من شمال إفريقيا ساهم – دون قصد – في تقوية قلب المسيحية الكاثوليكية.

