في السياسة كما في التاريخ، لا يحدث التكرار عبثًا. بل غالبًا ما تكون الأخطاء الكبرى نسخة مُعدّلة من ماضٍ لم تُستخلص منه العبر. هذا ما يبدو أنه يحصل اليوم في واشنطن، حيث تُقصى مديرة الاستخبارات تولسي غابارد، من النقاشات الحاسمة حول إيران وإسرائيل، تمامًا كما أُقصي العقل الاستخباراتي الأميركي قبل أكثر من عشرين عامًا في الطريق إلى غزو العراق.
وفق ما كشفت عنه تقارير إعلامية أميركية مرموقة، لم تُدع غابارد إلى اجتماعات الإدارة الأميركية الأخيرة التي ناقشت التوتر المتصاعد مع إيران، رغم أنها الجهة الأولى المخوّلة بتجميع وتنسيق المعلومات الاستخباراتية. والأسوأ من ذلك، أن تقاريرها التي أكدت أن إيران لا تعمل حاليًا على تصنيع سلاح نووي، قوبلت بالتجاهل، بل وبالغضب من قبل الرئيس ترامب.
المشهد ليس جديدًا. في عام 2002، كان جورج تينيت، مدير الـCIA آنذاك، يحاول أن يُقنع صناع القرار الأميركيين بأن العراق لا يملك ما يكفي من مقوّمات أسلحة الدمار الشامل. لكن صوت تينيت تم تهميشه، وتم استبداله بمكتب “الخطط الخاصة” في البنتاغون، الذي قدّم سردية مُفصّلة لحرب مُهيأة سلفًا. اليوم، يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه: تُقصى غابارد، ليحلّ مكانها فريق صغير أكثر “انسجامًا” مع التوجهات السياسية، وأقل ارتباطًا بالحقائق الاستخباراتية.
وفي مذكرات تينيت، التي صدرت في كتابه “At the Center of the Storm”، اعترف مدير الـCIA أن التقارير الاستخباراتية التي قدمتها الوكالة بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق كانت أكثر تحفظًا من السردية السياسية التي تبنتها الإدارة الأميركية. رغم ذلك، تعرضت الـCIA لضغوط كبيرة من قبل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد لتقديم تقرير يوافق الرواية السياسية، مما أسهم في الغزو. تينيت تحدث عن التقييمات الاستخباراتية المشوشة التي تم تجاهلها، مما قاد إلى قرار غير مستند إلى معلومات دقيقة.

إن استبعاد غابارد ليس تفصيلاً إدارياً، بل مؤشر مقلق على أن أميركا تمضي من جديد نحو قرار عسكري كبير وهي تعزل العقل، وتستأنس فقط بما يُغذي شهيتها إلى المواجهة.
لا أحد يُدافع عن النظام الإيراني هنا، لكن الحروب لا تُشن بناء على الحدس أو الانفعال، بل على التقييمات الواقعية. أما إذا كانت الحقائق تُزعج، ويتم استبعاد من ينقلها، فذلك يعني أن القرار قد اتُّخذ قبل أن تُطرح الأسئلة، وأن الطريق نحو خطأ استراتيجي جديد قد فُتح بالفعل.

