خلال التسعينات من القرن الماضي، وخلال تحولي إلى مدينة القاهرة لإجراء تحقيق صحفي حول الجماعات الإسلامية هناك، قادتني قدماي إلى شارع القصر العيني، حيث يوجد مقر مجلة روز اليوسف العريقة. كنت قد حدّدت موعداً مع رئيس تحريرها آنذاك، الصحفي والكاتب المعروف عادل حمودة، وهو واحد من أكثر الأسماء إثارة للجدل في الصحافة المصرية والعربية.
بعد أن انتهى لقاؤنا، قدّم لي حمودة نسخة من كتابه الذي كان قد عرف انتشاراً واسعاً في مصر وخارجها بعنوان «النكتة والسياسة: كيف يسخر المصريون من حكامهم». تناولت الكتاب وشرعت في التهامه منذ لحظة عودتي إلى الفندق، ولم أغلق صفحاته حتى أنهيته بالكامل قبل مغادرتي القاهرة نحو تونس. لقد شدّني كثيراً، حتى أنني عدت إليه مرة ثانية وثالثة في السنوات اللاحقة، قبل أن أستعيد قراءته مجدداً خلال الأيام الأخيرة، لأغوص فيه من جديد بعين مختلفة وزمن مختلف.
ورغم مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على صدور نسخته الأولى، فإنّ هذا الكتاب ما يزال صالحاً لزماننا الحالي، لأنّ النكت التي وُلدت في الستينات والسبعينات على ألسنة المصريين والسودانيين واليمنيين والليبيين والجزائريين — تلك التي سخرت من عبد الناصر والسادات وحسني مبارك وجعفر النميري والمشير عبد الله السلال ومعمر القذافي والشاذلي بن جديد وبورقيبة وبن علي — ما تزال قابلة للاستعمال اليوم، وكأنها كُتبت خصيصاً لحكام هذا الجيل.
كان مواطنو تلك الشعوب، بما في ذلك الشعب التونسي، محرومين — ولا يزال الكثير منهم كذلك — من حرية التعبير والخوض العلني في الشأن السياسي، لكنهم لم يترددوا في اختراع وسيلة بديلة: النكتة السياسية. لقد كانت النكتة سلاحهم الوحيد، وسيلة دفاعهم الرمزية ضد السلطة، كما وصفها عادل حمودة نفسه حين قال إنها «سلاح من لا سلاح له».
ومع التقدّم العلمي والثورة الرقمية، تحوّلت النكتة السياسية إلى ظاهرة عابرة للحدود، أكثر انتشاراً وأكثر سطوة، تنتقل بسرعة البرق عبر فضاءات افتراضية لا تستطيع السلطات مراقبتها أو كبحها. من فايسبوك إلى تيك توك وإنستغرام ومنصة إكس، أصبحت النكتة الآن رسالة سياسية مكثّفة، يتداولها الناس بأسماء مستعارة وصور رمزية، لكنها تُصيب الهدف بدقّة وتفكّك الخطاب الرسمي بنقرة واحدة.
ويتفق علماء النفس والاجتماع على أنّ انتشار النكتة السياسية في مجتمع ما هو في حدّ ذاته علامة أزمة. فهي الضحك الذي يُخفي البكاء، وهي الصرخة التي تخرج في شكل قهقهة. النكتة السياسية تُعبّر عن مأزق جماعي بقدر ما تُظهر قدرة الناس على التكيّف والمقاومة، فهي في جوهرها مرآة لواقعٍ مأزومٍ، لكنها أيضاً دليل حياة، إذ لا يضحك إلا من لا يزال قادراً على الأمل، ولو من وراء ستار من السخرية.
في كتابه الشهير «النكتة والسياسة: كيف يسخر المصريون من حكامهم»، يوثّق الصحفي المصري المعروف عادل حمودة كيف تحوّلت النكتة في مصر إلى سلاح رمزي فعّال، يستخدمه المواطنون لمواجهة الخوف والعجز والتسلّط.
فحين تُصادر الصحف وتُراقب الإذاعات وتُقمع المظاهرات، لا يبقى أمام الناس سوى سلاح خفيف لكنه لاذع: الضحك. كتب حمودة أن النكتة ليست مجرد طرفة، بل وثيقة سياسية شفوية تعبّر عن علاقة متوترة بين الحاكم والمحكوم. في المقاهي، في طوابير الخبز، في وسائل النقل، تتناقل الألسن النكتة التي تختصر موقفاً سياسياً لا يمكن قوله علناً.
إنها رسالة مشفّرة تقول للحاكم: نحن نفهمك ونسخر منك رغم رقابتك علينا. في الأنظمة المغلقة تتحوّل النكتة إلى ما يشبه السلاح السري، إذ لا تملك طلقة لكنها تصيب الهيبة، ولا تطيح بالكرسي لكنها تزعزع صورته في الوعي الجمعي. الضحك هنا ليس تسلية، بل شكل من أشكال المقاومة الرمزية.
فالذي يضحك من السلطة يعلن بطريقة ضمنية أنه لم يعد يخافها. أما سيغموند فرويد، فقد رأى في كتابه «النكتة وعلاقتها باللاوعي» أن الفكاهة وسيلة لتحرير المكبوتات والرغبات الممنوعة بطريقة آمنة، وأن الضحك يوفر اقتصاداً في الانفعال، فيتيح للمقموعين أن يفرغوا طاقاتهم العدائية دون مواجهة مباشرة.
وهكذا تصبح النكتة السياسية وسيلة دفاع جماعي، تمنح الناس شعوراً مؤقتاً بالتوازن النفسي إزاء سلطة تراقبهم وتتحكم في مصيرهم. في المقابل، يرى هربرت ماركوز أن النكتة السياسية هي التعبير الحقيقي عن الوعي المقموع، لأنها تسحب القداسة عن السلطة وتعيدها إلى حجمها البشري.
فالزعيم الذي يُضحك الناس عليه يفقد جزءاً من سحره، والضحك بذلك يصبح فعلاً تحررياً، يكسر جدار الخوف الذي تبنيه الأنظمة حول رموزها. أما بيير بورديو فيعتبر أن من يجرؤ على السخرية يمتلك شكلاً من أشكال القوة الرمزية، لأن النكتة تقلب علاقة القوة وتجعل الضعيف يتحدث بلغة يجهلها القوي، فتصبح الفكاهة ميداناً للمناورة اللغوية والسياسية في آن واحد.
إريك فروم، من جهته، وصف السخرية بأنها آلية دفاع اجتماعية تمنح الجماعة شعوراً بالسيطرة على مصيرها في وجه الإحباط العام، فهي انتصار رمزي يمنع الانفجار الحقيقي. أما الفيلسوف سلافوي جيجك، فيقدّم قراءة أكثر حذراً، إذ يرى أن الأنظمة الحديثة تسمح ببعض السخرية لتفرغ المعارضة من مضمونها، فيقول: «النظام يحب أن يضحك الناس منه قليلاً، لأن ذلك يجعلهم يعتقدون أنهم أحرار». ومع ذلك يبقى الضحك مؤشراً على بقاء الوعي السياسي حياً، لأن الشعوب التي تكفّ عن السخرية هي شعوب فقدت الأمل في التغيير.
في تونس، كما في مصر ولبنان والمغرب، تحوّلت النكتة السياسية إلى أرشيف للوعي الشعبي، تختزل الأزمات وتفضح التناقضات. في المقاهي ومواقع التواصل، تنتشر النكات التي تحمل روح النقد والسخرية رغم كل القيود، وكأنها استمرار طبيعي لثقافة عربية عريقة في تحويل الكلمة إلى وسيلة دفاع. فحين يسخر الناس من السياسيين، فهم يعلنون بذكاء أنهم لا يصدقون الخطابات الرسمية، وأن الوعي الجمعي ما زال يقظاً. ويؤكد علماء الاجتماع أن ازدهار النكتة السياسية دليل على حيوية المجتمع وقدرته على المقاومة الرمزية، لأن الشعوب الصامتة تفقد قدرتها على النقد، بينما الشعوب الساخرة تظل قادرة على الحلم.
فالنكتة، في نهاية المطاف، هي السلاح الذي لا يُصادر، والضحكة التي لا تُمنع، والرصاصة التي لا تقتل لكنها تصيب الهدف بدقّة: صورة الحاكم في مخيلة الناس.
لقد فهم عادل حمودة مبكراً أن ضحك المصريين على حكامهم ليس مجرد تسلية بل فعل مقاومة متكاملة الأركان، وأن الشعوب — حين تُمنع من الكلام — تجد دائماً وسيلة لتضحك، ولتقول كل شيء دون أن تنطق بشيء.

