رغم أن إيطاليا ليست من كبار المنتجين لزيت الزيتون من حيث الكميات، فإنها تُعدّ من أقوى الفاعلين في السوق العالمية، بفضل نموذج اقتصادي وتجاري يقوم على الذكاء التسويقي، والقدرة على بناء علامات تجارية عالمية، واستغلال سلاسل التوريد من الدول المنتجة، وفي مقدّمتها تونس وإسبانيا واليونان.
استيراد الزيت الخام وتصديره كمنتوج إيطالي
تُعدّ إيطاليا من أكبر الدول المستوردة والمصدّرة في الوقت نفسه لزيت الزيتون. فهي تستورد كميات ضخمة من الزيت الخام من الدول المنتجة، وخاصة تونس التي تحتلّ مرتبة متقدمة عالميًا في حجم الإنتاج، إلى جانب إسبانيا واليونان.
وبعد الاستيراد، تقوم الشركات الإيطالية بـخلط الزيت وتكريره وتعبئته في وحدات صناعية متطورة، ثم تسويقه تحت علامات تجارية إيطالية فاخرة، ليُعاد تصديره إلى أوروبا وأميركا وآسيا على أنه “زيت زيتون إيطالي خالص”، وهو ما يمنحها موقعًا متقدّمًا وثقة المستهلكين في الأسواق الكبرى.
قوة العلامة التجارية وشبكات التسويق
تمكّنت إيطاليا من فرض هيمنتها عبر شبكات تسويق دولية متقدمة، وشركات ضخمة لها نفوذ واسع مثل Filippo Berio وBertolli وCarapelli، التي لا تكتفي بالبيع فقط، بل تتحكم في قنوات التوزيع، وتستثمر في الصورة الذهنية للمنتوج الإيطالي كرمز للجودة والنكهة المتوسطية.
هذه الشركات لعبت دور “اللوبي العالمي” الذي يوجّه الطلب ويُعيد تعريف الذوق الاستهلاكي، ما جعل “الزيت الإيطالي” مرادفًا للرفاه والفخامة، حتى وإن كان جزء كبير منه مستخرجًا من ثمار تونسية أو إسبانية.
تونس: عملاق الإنتاج وخسارة القيمة المضافة
في المقابل، ورغم أن تونس تُعدّ من أكبر المنتجين في العالم (الثانية أو الثالثة بعد إسبانيا حسب المواسم)، فإنها ما تزال تُصدّر أغلب إنتاجها خامًا إلى الخارج، خاصة إلى إيطاليا وإسبانيا، ما يجعلها تخسر القيمة المضافة المرتبطة بعمليات التعبئة والتغليف وبناء العلامة التجارية.
هذا النموذج القائم على التصدير الخام يجعل من الفلاح والمعاصر والمصدر التونسي مجرد حلقة أولى في سلسلة ربح تنتهي في أوروبا، حيث يُعاد تسويق الزيت بأسعار مضاعفة تحت أسماء أجنبية.
رؤية الخبراء: ضرورة بناء منظومة تونسية مستقلة
وفي هذا السياق، شدّد عبد الله الصحراوي، عضو نقابة الزيّاتين بالساحلين، في تصريح لإذاعة أكسبريس أف أم أمس ، على أن “الإيطاليين يُعتبرون من أكبر لوبيّات زيت الزيتون في العالم”، مؤكدًا أنّ تفوقهم لا يعود إلى الإنتاج بل إلى التسويق والتنظيم.
واعتبر الصحراوي أنّ إنقاذ القطاع التونسي يتطلب خطة واضحة تقوم على ثلاث ركائز أساسية:
- ضبط سعر مرجعي عادل يضمن حقوق الفلاح ويشجع على تحسين الجودة،
- تهيئة المعاصر وتخزين الزيت بطريقة علمية للحفاظ على الخصائص الطبيعية للمنتوج،
- تمويل الفلاح والمعاصر والمصدر من طرف الدولة، لتمكينهم من التحكم في كامل مراحل الإنتاج والتسويق.
إن التجربة الإيطالية تُبرز أن التحكم في التسويق أهم من الإنتاج وحده، وأن الدول المنتجة مثل تونس مطالبة اليوم بالانتقال من منطق “المزود الخام” إلى منطق “العلامة الوطنية”، عبر تشجيع الاستثمار في التعبئة والترويج الخارجي، وربط الزيت التونسي بصورة الجودة الأصيلة والمتوسطية.
فمن دون بناء هوية تجارية واضحة، ستظلّ الأسواق الكبرى تُدار من وراء البحار، وتُحدّد قيم منتجاتنا من طرف الآخرين.

