لا يمكن قراءة الاتصال الهاتفي الذي جمع وزير الدفاع خالد السهيلي بالمسؤول الأميركي الرفيع دانيال زيمرمان خارج سياقه الاستراتيجي الأوسع، حيث تعيد الولايات المتحدة، بهدوء ولكن بثبات، ترتيب أولوياتها الأمنية في أفريقيا في ظل احتدام التنافس الدولي وتراجع نموذج التدخل العسكري المباشر.
فدانيال زيمرمان يمثل أحد أبرز مهندسي السياسة الدفاعية الأميركية تجاه أفريقيا والشرق الأوسط. فبصفته مساعد وزير الحرب الأميركي للشؤون الأمنية الدولية، لا يدير زيمرمان ملفات التعاون العسكري التقليدي فحسب، بل يشرف على إعادة تعريف دور الولايات المتحدة في القارة: من قوة متدخلة إلى شريك داعم وبانٍ للقدرات.
في ردوده الرسمية أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، يقرّ زيمرمان صراحة بأن القيادة الأميركية في أفريقيا (AFRICOM) تفتقر إلى قوات مخصّصة، ما يجعلها تعتمد على الشراكات المحلية بدل الانتشار الواسع. هذا الإقرار ليس تقنيًا، بل يعكس تحولًا عقائديًا في التفكير العسكري الأميركي.
أفريقيا بين الإرهاب والمنافسة الكبرى
تنطلق رؤية زيمرمان من فرضيتين أساسيتين:
- أولًا، أن الخطر الإرهابي في أفريقيا لم يُهزم نهائيًا، بل أعاد التموضع، ما يستوجب دعم الجيوش الوطنية بدل الحلول الخارجية.
- ثانيًا، أن التهديد الأبرز لم يعد أمنيًا فقط، بل جيوسياسيًا، في ظل تمدد الصين وروسيا بوسائل مختلفة.
الصين، وفق هذا التصور، تستخدم الاستثمار والبنية التحتية والتعاون العسكري لخلق تبعيات استراتيجية طويلة الأمد، بينما تعتمد روسيا على أدوات أقل كلفة وأكثر زعزعة، من بينها التشكيلات شبه العسكرية. وفي الحالتين، ترى واشنطن أن الفراغ الأمني والمؤسساتي هو المدخل الأساسي لنفوذ المنافسين.
تونس وخارطة الطريق 2020-2030
في هذا السياق، تأتي تونس كـحالة استراتيجية نموذجية، حيث ركّز وزير الدفاع خالد شلّي على ضرورة تنفيذ خارطة طريق التعاون العسكري 2020-2030. تشمل الخطة:
- تطوير وتعزيز القدرات العملياتية للجيش الوطني التونسي
- تحسين البنية اللوجستية لمواجهة التهديدات غير التقليدية مثل الإرهاب، الجريمة العابرة للحدود، والهجرة غير النظامية
- دعم مركز تونس كـقطب تدريبي إقليمي وأفريقي، مع الإشارة إلى تدريب أكثر من 400 عسكري أفريقي خلال العام الحالي
هذه الخارطة تمثل آلية ملموسة لتطبيق رؤية زيمرمان القائمة على الشراكات القوية وبناء القدرات المحلية بدل الاعتماد على القوة الأميركية المباشرة.
اللجنة العسكرية المشتركة: أداة ضبط لا واجهة شكلية
التشديد المشترك على دور اللجنة العسكرية التونسية-الأميركية يعكس قناعة الطرفين بأن التعاون لم يعد يقتصر على:
- التكوين والتمارين المشتركة
- أو اقتناء المعدات
بل يشمل:
- التخطيط المشترك لمواجهة التهديدات غير التقليدية
- تعزيز الأمن الحدودي
- متابعة نتائج خارطة الطريق 2020-2030 لضمان تنفيذها بفعالية
يحمل الاتصال أيضًا رسائل ضمنية:
- تأكيد استمرار الدعم الأميركي للمؤسسة العسكرية التونسية رغم السياق السياسي المعقّد
- تثبيت تونس كشريك موثوق في مقاربة «الأمن من الداخل»
- والإشارة إلى أن واشنطن لا تنوي الانسحاب من أفريقيا، بل إعادة التموضع بوسائل أقل كلفة وأكثر استدامة
تونس والمغرب نموذج للشركاء الأمنيين
خلال جلسة استماع أمام الكونغرس الأميركي، كشف الجنرال داغفين أندرسون، القائد الجديد لأفريكوم، عن تصور أميركي متجدد لدور شمال أفريقيا في الأمن القومي للولايات المتحدة:
- وصف تونس والمغرب بأنهما من أكثر الشركاء الأفارقة قدرة على تصدير الأمن والاستقرار إلى باقي القارة، لا سيما عبر تدريب قوات الدول الإفريقية الأخرى.
- أشار إلى تجربة الدولتين خلال تدريبات “فلينتلوك” (FLINTLOCK)، أكبر تدريبات للقوات الخاصة في إفريقيا، حيث قادت تونس والمغرب التمرينات على المستوى الإقليمي، ما يعكس الثقة الأميركية في قدراتهما العملياتية.
- أكد أن هذا التوجه ينسجم مع السياسة الأميركية لتقليص التواجد المباشر في الخارج وتعويضه بشراكات إقليمية فاعلة، تقوم بدور “الاستقرار بالوكالة”.
الجزائر وروسيا: قلق أميركي متصاعد
أوضح أندرسون في جلسة الكونغرس موقف واشنطن تجاه الجزائر، داعيًا إلى:
- إعادة توجيه الجزائر بعيدًا عن اعتمادها التاريخي على روسيا
- الحد من النفوذ الروسي في شمال أفريقيا، في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة إلى احتواء النفوذ الروسي عالمياً، خصوصًا في البحر الأبيض المتوسط.
ويعكس هذا تحولًا في التعاطي الأميركي مع الجزائر، من الحذر التقليدي إلى سياسة احتواء دبلوماسي طويلة المدى، تستهدف تقليص اعتماد الجزائر على العتاد الروسي والتحالفات التاريخية.

