تحتفل فرنسا، اليوم 14 جويلية، بالذكرى 236 لاندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789، تلك اللحظة المفصلية التي غيّرت وجه أوروبا، وأطلقت شرارة مفاهيم مثل الحرية والمساواة والإخاء. لكن الاحتفال هذا العام يأتي في سياق بالغ الحساسية، داخليًا وخارجيًا، ما يدفع إلى التساؤل: ماذا تبقى من هذه الثورة اليوم؟ وهل ما تزال قيمها مرجعًا أم أصبحت مجرّد طقوس رمزية؟
في خطابه عشية العيد الوطني، حذّر الرئيس إيمانويل ماكرون من أن الحرية لم تكن مهددة إلى هذا الحد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مشيرًا إلى عودة منطق “قانون الأقوى”، وذكر “الإمبرياليات” و”قوى الضم” في إشارة واضحة إلى روسيا.
وإذ أكد ماكرون أن السلام الأوروبي بات مرهونًا بالقرارات الحاضرة، أعلن عن زيادة في الإنفاق العسكري بقيمة 6.5 مليار يورو خلال العامين المقبلين، ما يكشف عن تحوّل استراتيجي في العقيدة الدفاعية الفرنسية، وربما الأوروبية عمومًا.
لكن اللافت في الخطاب ليس فقط مضمونه الأمني، بل توقيته ومكانه، إذ يأتي عشية ذكرى ثورة كانت في أصلها انتفاضة شعبية ضد عسكرة السلطة واستبدادها، فهل تحوّلت الثورة إلى غطاء للسياسات الواقعية التي تتناقض مع مضمونها الأصلي؟
من ثورة إلى دولة… ومن المبادئ إلى المصالح
يُجمع العديد من المؤرخين والمفكرين الفرنسيين على أن فرنسا الرسمية تحتفل اليوم برمز أكثر من فكرة. فالثورة التي قامت على أكتاف الطبقات المهمشة والفكر التنويري، باتت تُستدعى لتجميل السياسات الواقعية التي تنتهجها الدولة في الداخل والخارج.
ففي الداخل، لا تزال مفاهيم المساواة موضع جدل في ظل تصاعد الفوارق الطبقية وتهميش الضواحي، فيما تواجه “الحرية” تحديات متزايدة بسبب قوانين الأمن والهجرة والرقابة.
أما خارجيًا، فقد أصبحت الجمهورية الخامسة تقود خطابًا هجوميًا باسم “قيم الجمهورية”، من مالي إلى أوكرانيا، ومن المتوسط إلى المحيط الهادئ، في ما يشبه عودة إلى “جمهورية السلاح” أكثر من “جمهورية القيم”.
📚 مفارقة الثورة: هل تتناقض مع نفسها؟
التحوّل الفرنسي من خطاب الثورة إلى منطق الردع، يُظهر مفارقة عميقة: الدولة التي نشأت ضد الاستبداد، باتت تُسوّغ استخدام القوة باسم حماية الحرية. وهذه ليست مفارقة جديدة، بل جزء من التوتر الدائم بين “مثل الثورة” و”ضرورات الدولة”.
وفي هذا السياق، يتحوّل العيد الوطني من مناسبة للتذكير بالمبادئ، إلى استعراض عسكري صارخ، تُركّز فيه الكاميرات على الطائرات والدبابات أكثر من الكتب والأفكار.
في عالم يزداد انقسامًا وتطرفًا، تظل مبادئ الثورة الفرنسية ضرورية أكثر من أي وقت مضى، لكن الحفاظ على معناها يتطلّب إعادة ربطها بالواقع اليومي للمواطنين، وليس فقط استحضارها في المناسبات.
فالتهديد الحقيقي ليس فقط خارجيًا، بل يكمن في فقدان المعنى الداخلي لقيم الثورة. وما لم تتمكن الجمهورية من تجديد قراءتها لتاريخها واستلهام روحه بدل ترديد شعاراته، فإن الثورة الفرنسية قد تصبح يومًا ما مجرّد ذكرى احتفالية… في دولة خائفة على أمنها، لا على مبادئها.

