حين تتكرّر الادّعاءات نفسها عبر الزمن، وتتبدّل صيغها دون أن تتبدّل نتائجها، يصبح السؤال مشروعًا: هل نحن أمام شخص يعيش وهم القرب من السلطة، أم أمام ممارسة واعية لتحيّل سياسي وإعلامي؟
محمد الهنتاتي عاد مجددًا إلى الواجهة بعد زعمه، في مقطع فيديو، أنّ رئيس الجمهورية اتصل به لتهنئته وشكره عقب مشاركته في برنامج تلفزيوني. ادّعاء سرعان ما تهاوى أمام توضيح رسمي قاطع ينفي أي علاقة لرئاسة الجمهورية بهذه المزاعم، ويؤكد أن كل أشكال الادّعاء أو التحايل مرفوضة وستُواجَه قانونيًا.
لكن خطورة المسألة لا تكمن في تصريح معزول، بل في نمط متكرر:
- 2022: ادّعاء تواصل يومي مع رئيس الجمهورية.
- 2023: إعادة الادّعاء نفسه، ثم الحديث عن تعيين وزاري، ثم عن عمل داخل قصر قرطاج.
- 2025: عودة السيناريو ذاته، مع تغيير السياق فقط.
هذا التكرار يفرض مقاربة أعمق من مجرد التكذيب. نحن أمام أحد احتمالين:
في هذا السيناريو، لا يكون الادّعاء بالضرورة تحيّلًا واعيًا، بل بناءً ذهنيًا لوضعية رمزية يتماهى فيها الشخص مع صورة القرب من السلطة، بحثًا عن الاعتراف، التأثير، أو تعويض نقص في الشرعية.
هنا يتحوّل “الاتصال بالرئيس” إلى عنصر سردي ثابت، يُستخدم لتثبيت الذات في الفضاء العام، حتى في غياب أي دليل.
وهو الاحتمال الأخطر. فادّعاء القرب من مؤسسة الرئاسة، في سياق سياسي حساس، يمكن أن يكون أداة لتضليل الرأي العام، أو لفرض شرعية وهمية، أو لتصفية حسابات سياسية وإعلامية.
عند هذه النقطة، لا يعود الأمر “تصريحًا شخصيًا”، بل مساسًا بهيبة الدولة واستعمالًا غير مشروع لاسم أعلى مؤسسة في البلاد.
لا يمكن عزل هذه الادّعاءات عن المسار القضائي لصاحبها، بما فيه الأحكام الصادرة في قضايا تحيّل وإهمال عيال، والتي تضع مسألة المصداقية في قلب النقاش، دون أن تحسم وحدها طبيعة الدافع: نفسي أم نفعي.
توضيح رئاسة الجمهورية كان واضحًا: لا تمثيل، لا اتصال، ولا تسامح مع الادّعاء.
غير أن الإشكال الأعمق لا يزال قائمًا: كيف يمكن لشخص واحد أن يكرّر الادّعاء نفسه لسنوات، دون مساءلة سياسية أو إعلامية جديّة حول حدود الخطاب، والمسؤولية، وخطر تحويل المنابر إلى فضاء لتصنيع الأوهام؟
سواء كنّا أمام وهم سياسي (mythomane) أو تحيّل متعمّد، فالنتيجة واحدة: تشويش على الرأي العام، وإقحام غير مشروع لمؤسسة الرئاسة في صراعات فردية.
والفارق الوحيد بين الحالتين هو مكان الحلّ:
- إن كان وهمًا، فمكانه التفكيك الإعلامي.
- وإن كان تحيّلًا، فمكانه المساءلة القانونية.
وفي الحالتين، الصمت ليس خيارًا.
أمام هذا السجلّ من الادّعاءات المتكرّرة، يطرح سؤال بديهي نفسه: كيف ولماذا تمّت دعوة محمد الهنتاتي للمشاركة في برنامج تلفزيوني واسع التأثير مثل “الاتجاه المعاكس” على قناة الجزيرة، الذي يديره إعلامي مخضرم كفيصل القاسم؟
في العمل الإعلامي المهني، لا تُقاس قيمة الضيف فقط بقدرته على الصراخ أو إثارة الجدل، بل بـ رصيده المعرفي، مصداقيته، وإضافته الحقيقية للمتلقي. وهو ما يجعل البحث في سيرة الضيف، مواقفه السابقة، وخلفياته، حدًّا أدنى من شروط التحرير، لا ترفًا.
دعوة شخصية ذات سيرة إشكالية ومشحونة بالادّعاءات غير المثبتة تطرح احتمالين لا ثالث لهما:
- إما إهمال تحريري جسيم في التثبت من هوية الضيف ومساره،
- أو اختيار واعٍ لضيف “صدامي” لأن الجدل في حد ذاته هو المادة المطلوبة، حتى وإن كان على حساب المضمون والمهنية.
في كلتا الحالتين، الخاسر هو المتلقي.
فبرنامج يُفترض أنه يقدّم “نقاشًا فكريًا حادًا” يتحوّل إلى منصة لإعادة تدوير شخصيات لا تضيف معرفة، ولا تقدّم تحليلًا، بل تشتغل على الإثارة وادّعاء القرب من السلطة.
الأخطر من ذلك أن استضافة مثل هذه الشخصيات تمنحها شرعية رمزية مجانية: مجرد الظهور على شاشة بحجم الجزيرة يكفي لدى جزء من الجمهور لاعتبار الضيف “فاعلًا” أو “مقرّبًا” أو “مؤثرًا”، حتى وإن كانت الوقائع تنفي ذلك تمامًا.
هنا لا يكون الخلل فقط في الضيف، بل في منظومة إعلامية تفضّل الضجيج على القيمة، والتشنج على المعلومة، والادّعاء على التمحيص.
والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس: ماذا قال الهنتاتي؟
بل: لماذا أُتيح له أن يقول أصلًا؟

