جاء في تقرير صادر عن أندريا سيلينو نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في سويسرا والمدير التنفيذي المقيم في مركز جنيف لسياسة الأمن أوروبا أن تعيد النظر بشكل عاجل في نهجها تجاه ليبيا، ليس فقط من أجل استقرار البلاد بل أيضًا لدعم العملية التي تقودها الأمم المتحدة استراتيجيًا في بلد مهدد بالانهيار.
ويقول سيلينو في تقريره “كما أشارت هانا تيتي، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة مؤخرًا، فإن الدعم الدولي ضروري لأي تقدم سياسي. في ظل تفكك المؤسسات الليبية، وتغلغل الجماعات المسلحة في الاقتصاد، وتزايد النفوذ الروسي، يؤكد التقرير الأخير للأمم المتحدة بوضوح أن وحدة أوروبا وتحركها أمران حيويان، ليس فقط لمستقبل ليبيا، بل لأمن المنطقة بأكملها.
أدت الاشتباكات الأخيرة في طرابلس، عقب اغتيال عبد الغني الككلي (المعروف بـ “غنيوة”) في 12 ماي، قائد ميليشيا جهاز دعم الاستقرار (ASS)، إلى تأجيج الصراعات بين الفصائل المتناحرة في العاصمة الليبية. وكان الككلي، المتهم بارتكاب جرائم قتل وتعذيب وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان، يسيطر على حي أبو سليم الحيوي في طرابلس، واغتياله جاء نتيجة صراعات داخلية بين ميليشيات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. يبدو أن الوضع اليوم عاد إلى سيطرة (هشة) من قبل الحكومة في طرابلس، لكن ورود تقارير عن تحركات جماعات مسلحة أخرى من خارج العاصمة، قادمة من الزاوية ومن الشرق الخاضع لسيطرة خليفة حفتر، تشير إلى احتمال نشوب صراع أوسع.
في 17 أفريل، أطلعت الممثلة الخاصة للأمم المتحدة، السيدة تيتي، مجلس الأمن على الوضع في ليبيا، مشددة على الدور الحيوي للدعم الإقليمي والدولي للتوصل إلى اتفاق سياسي. وقالت إن “دعم الشركاء الإقليميين والدوليين أمر بالغ الأهمية لنجاح أي اتفاق سياسي” في ليبيا. وقد أبرز التقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة حول ليبيا (S/2025/223) مشكلات مزمنة تشكل أسبابًا قوية تدفع الدول الأوروبية لإعادة تعديل استراتيجيتها حيال ليبيا، بالانتقال من نهج يركز على “الاستقرار” فقط إلى دعم أكثر انفتاحًا لاستراتيجية الأمم المتحدة.
يؤكد التقرير أن “تطلعات الشعب الليبي لدولة موحدة ومستقرة وديمقراطية ما زالت غير محققة”، رغم مرور أكثر من 12 عامًا على جهود الأمم المتحدة من أجل السلام. ووجه التقرير نقدًا دبلوماسيًا حادًا للسلطات الليبية، خاصة السلطتين التنفيذيّتين المنقسمتين، بسبب استمرارهما في تغذية الانقسامات المؤسسية والسياسية، ما يقوّض الحكم الرشيد ويزيد من عدم الاستقرار.
في هذا السياق السياسي المتوتر، حيث لا تزال المنافسة على السيطرة الإقليمية قائمة بين الفصائل المسلحة، أشار الأمين العام إلى ما ورد في تقرير مجموعة الخبراء التابعة للأمم المتحدة بشأن ليبيا، الذي أكد أن نفوذ الجماعات المسلحة “أثر على قدرة المؤسسات الرسمية على أداء مهامها”. ومن أبرز القضايا المتعلقة بالحكم، تبرز الأزمة الاقتصادية، لا سيما بعد سيطرة فصائل مسلحة على مصرف ليبيا المركزي عام 2024. وعلى الرغم من ارتفاع إنتاج النفط، إلا أن الاقتصاد الليبي لا يزال يعاني بسبب هذا الاستيلاء وسلسلة العقوبات الدولية المؤقتة التي تلته.
ولا تزال حالة عدم الاستقرار تؤثر على أسعار الصرف (الرسمية وغير الرسمية)، ما يؤثر على سبل العيش. ليبيا دولة ريعية تعتمد كليًا على عائدات النفط. ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن كميات متزايدة من النفط يتم تهريبها بشكل غير قانوني من قبل فصائل مسلحة، ولا تصل إلى خزينة الدولة.
هناك ارتباط مباشر، بطبيعة الحال، بين شبه الانهيار الاقتصادي ودور الجماعات المسلحة التي أصبحت أكثر اندماجًا في الاقتصاد الليبي القائم على الطاقة. هذه الجماعات تسيطر على مناطق اقتصادية حيوية، منها المنشآت النفطية، ومحاور التهريب، ونقاط العبور الحدودية (مثل الزاوية، وحوض غدامس)، وتستفيد من تهريب الوقود و”حماية المرافق” وتنهب موارد الدولة.
وتوثق تقارير الأمم المتحدة كيف تعمل هذه الفصائل في الاقتصاد غير الرسمي، لا سيما في طرابلس ومصراتة ومدن الغرب، مستغلة دعم الوقود والعائدات الجمركية. وبالمثل، تسيطر القوات المسلحة العربية الليبية والفصائل المسلحة الموالية لحفتر على ممرات حدودية رئيسية وموانئ نفطية وممرات تهريب في الشرق والجنوب، وتستفيد من النشاطات غير المشروعة.
كما يتناول التقرير الأخير للأمين العام قضايا الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان بحق المهاجرين، والتي ترتكبها الجماعات المسلحة الليبية – سواء في الغرب (طرابلس) أو الشرق (برعاية حفتر) – وذلك بتواطؤ مباشر أو غير مباشر من السلطات الرسمية. وكما ذكر سابقًا، فإن القادة الليبيين المنخرطين في الجريمة المنظمة يجنون أرباحًا أكبر من تهريب الوقود والمخدرات والأسلحة، مقارنة بتهريب المهاجرين، لكنهم يحتفظون بمصالح سياسية تدفعهم إلى تلبية مطالب الحكومات الأوروبية في قضايا الهجرة مقابل “الاعتراف” و”الهيبة”. وهي استراتيجية تسمح لهم بالحفاظ على شرعيتهم من خلال دعم سياسي خارجي.
إلى جانب التهديدات التي تمثلها ليبيا كدولة من دون قانون، غير مستقرة وتفتقر إلى الحكم الرشيد، على أمن أوروبا والبحر المتوسط، فإن التطورات الدولية الأخيرة تجعل من الضروري بشكل متزايد أن تضع دول الاتحاد الأوروبي استراتيجية للتعامل مع الوضع. فروسيا، التي ظلت حاضرة في ليبيا منذ سنوات على الصعيد الدبلوماسي وعبر شركاتها العسكرية الخاصة، وعلى رأسها مجموعة فاغنر (التي أعيدت تسميتها إلى “الفيلق الإفريقي”)، نجحت في تحويل بعض قواتها ومعداتها من سوريا إلى ليبيا، ما يعزز نفوذها هناك. وتشارك المرتزقة الروس في أنشطة غير قانونية مثل تهريب المخدرات والتعدين غير المشروع. ومن خلال تعزيز نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في ليبيا، وخاصة عبر تحالفها مع سلطات حفتر في الشرق، تسعى موسكو لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الأوسع في إفريقيا، من بينها الوصول العسكري، والتأثير في قطاع الطاقة، وبسط النفوذ الإقليمي في مواجهة الغرب.
وعليه، استجابةً لدعوة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، السيدة تيتي، ينبغي على دول الاتحاد الأوروبي اتخاذ إجراءات حاسمة لدعم جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL) لدفع العملية الانتخابية، واستقرار الاقتصاد، وحماية حقوق الإنسان، والتعامل مع الأزمات الإنسانية والهجرة. إن التزامًا أوروبيًا منسقًا سيكون ضروريًا ليس فقط للحفاظ على الاستقرار وإنهاء الفوضى ودعم الحلول الليبية، بل أيضًا لمواجهة الاستراتيجية الروسية في جنوب القارة.
“الغموض الاستراتيجي” الذي تنتهجه الإدارة الأمريكية الحالية تجاه روسيا، ونهجها غير المتماسك تجاه ليبيا، يشيران إلى أن أوروبا قد تضطر للاعتماد على نفسها لمواجهة التوسع الروسي العدائي، ليس فقط في القارة الأوروبية، بل خارجها أيضًا. علاوة على ذلك، فإن مشروع إدارة ترامب بإرسال مهاجرين غير شرعيين إلى ليبيا، وعلى الأرجح إلى بنغازي، من شأنه أن يزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، ويدعم الجماعات الإجرامية المتحالفة مع القوى السياسية، مما يفاقم زعزعة استقرار البلاد.
تتطلب الاستراتيجيات المضادة الأوروبية أن يتخلى أعضاء الاتحاد الأوروبي عن مصالحهم المتضاربة في ليبيا، والتي أضعفت منذ فترة طويلة عزم المجتمع الدولي على استقرار البلاد. إلى جانب دعم قوي لجهود بعثة الأمم المتحدة في تعزيز الانتخابات، واستقرار الاقتصاد، وحماية حقوق الإنسان، والاستجابة للأزمات الإنسانية والهجرة، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يقدم قيادة دبلوماسية إضافية، واستثمارات مالية، ودعمًا تقنيًا مستهدفًا. ولمواجهة النفوذ الروسي، يجب على أعضاء الاتحاد الأوروبي تقديم بدائل واقعية ومستدامة.
اقتصاديًا، ينبغي على الاتحاد الأوروبي توسيع مساعدته التقنية إلى البنك المركزي الليبي، وديوان المحاسبة، ووزارة المالية لدعم التوحيد المالي وتنفيذ إصلاحات لمكافحة الفساد.
وقد تشمل الإجراءات الأخرى تسهيل الحوار الاقتصادي الإقليمي لدمج ليبيا في أطر التجارة والاستثمار المتوسطية. وفي قطاع الأمن، ينبغي على الاتحاد الأوروبي تعزيز التنسيق بين الجهات الأمنية الليبية، وإنشاء استراتيجيات قوية لإصلاح قطاع الأمن ونزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج في إطار توحيد المؤسسات.
وفيما يتعلق بالهجرة، وعلى الرغم من صعوبة المناخ السياسي الأوروبي الحالي، فإن الحلول يمكن أن تشمل تطوير طرق آمنة وقانونية لطالبي اللجوء، مثل الممرات الإنسانية وبرامج إعادة التوطين. كما أن تفكيك شبكات الاتجار بالبشر بشكل جدي، ودعم آليات الحماية المجتمعية، يقتضي بالضرورة تجنب إبرام صفقات مع قادة ومسؤولين سياسيين يستفيدون من الاتجار بالبشر، ودعم وصول الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية دون قيود إلى جميع مراكز الاحتجاز.
يجب أن يشمل إضعاف الدور الروسي في ليبيا، على سبيل المثال، توسيع عملية “إيريني” – وهي المهمة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي المكلفة بفرض حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا –، ومكافحة تدفق الأسلحة غير المشروعة (المرتبطة في كثير من الأحيان بالمصالح الروسية)، وتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية، ومراقبة أنشطة المرتزقة الروس. كما أن إطلاق مبادرات لمكافحة التضليل الإعلامي الروسي، ودعم المجتمع المدني والإعلام الليبي، سيحد من التأثير الروسي في الخطاب العام. يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تحظى بدعم من حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو بعض أعضائه، بالإضافة إلى تبني الاتحاد الأوروبي استراتيجيات إقليمية محدثة، وإعادة بناء أو تعزيز الشراكات مع جيران ليبيا في شمال إفريقيا مثل الجزائر ومصر، والتعاون مع قوى إقليمية فاعلة أخرى مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة.

