نشر نوفل سعيد، شقيق رئيس الجمهورية قيس سعيد، مقاربة فكرية وتحليلية ذات طابع جيواستراتيجي، انطلقت من التحولات العالمية العميقة لتسلط الضوء على السياق التونسي، وتحديدًا ما وصفها “اللحظة المفصلية التي مثلها تاريخ 25 جويلية 2021.”
استند نوفل سعيد في تحليله إلى الكتاب الصادر حديثًا للمفكرة الأمريكية نانسي فرايزر بعنوان: “الرأسمالية هي أكل لحوم البشر” (Le capitalisme est un cannibalisme)، وهو كتاب يصف الرأسمالية العالمية المعاصرة بأنها دخلت مرحلة من التوحش المالي غير المسبوق، تقوم على مراكمة الأرباح بلا حدود، وتتمثل أبرز سماتها في تفكيك دور الدولة وإضعاف سيادتها لصالح المؤسسات المالية العالمية.
فرايزر ترى أن ما نشهده اليوم هو انتقال نحو منظومة “التراكم عبر الدين” (accumulation par la dette)، حيث أصبحت البنوك المركزية والمؤسسات المالية الدولية أدوات لضبط العلاقة بين المركز الرأسمالي العالمي والأطراف التابعة، وتحولت الدولة إلى مجرد مدير محلي لسياسات مفروضة من الخارج، بينما تتراجع الديمقراطية إلى ما سمّته مرحلة ما بعد الديمقراطية.
في هذا السياق، يعتبر نوفل سعيد أن تونس، خلال الفترة الممتدة من 14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021، كانت بمثابة مختبر محلي لتجريب هذا النموذج المالي النيوليبرالي، حيث أُفرغت الدولة من محتواها السيادي، وتم تقويض دورها التنموي، وجرى تسليم القرار المالي والاقتصادي إلى المؤسسات الدولية.
من أبرز تجليات ذلك، كما يؤكد، كان صدور القانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق باستقلالية البنك المركزي، والذي وصفه المستشار السابق للرئاسة عزيز كريشان، في كتابه “اليسار وسرديته الكبرى”، بأنه قرار فُرض من قبل صندوق النقد الدولي، وقُدم على أنه تعديل تقني في حين كان في جوهره عنوانًا للخضوع المالي الكامل.
أما “لحظة 25 جويلية 2021،” فيصفها نوفل سعيد بأنها لم تكن مجرد منعطف سياسي، بل كانت لحظة تحرر وطني من منظومة عالمية أنتجت ما يسميه “أزمة عضوية” على الطريقة الغرامشية، أي تلك التي تمس البنية العميقة للمجتمع وتشل قدرته على إعادة إنتاج نفسه سلميًا.
واعتبر أن ما حصل في 25 جويلية لم يكن انقلابًا على الديمقراطية، بل كان فرصة لإنقاذ الدولة من التفكك والانهيار، واستعادة مشروعها الاجتماعي والإنمائي، وفتح أفق جديد للسيادة الوطنية في مواجهة منطق السوق والمؤسسات المالية.
يرى نوفل سعيد أنّ مقاومة إملاءات النظام المالي العالمي لا تعني فقط رفض التداين المفرط أو استقلالية البنك المركزي، بل تعني أيضًا السباحة عكس التيار العالمي، والرهان على دولة قادرة على لعب دورها الاجتماعي والتنظيمي، وعلى تعبئة الطاقات المحلية لبناء اقتصاد منتج عادل.
ويخلص إلى التأكيد على أن المعارضة الحقيقية لما بعد 25 جويلية يجب أن تتسلح بفهم نقدي للسياق العالمي، وألا تنكفئ إلى خطاب الأزمة والتضخيم، ما لم تتوفر فعلاً كتلة اجتماعية صلبة تطالب بتغيير النظام القائم.
رغم التحديات الظرفية التي تمر بها البلاد، يرى نوفل سعيد أن الدولة الوطنية التي أعيد بناؤها بعد 25 جويلية قادرة على امتصاص الأزمات، والفضل في ذلك يعود إلى تجدد الثقة بينها وبين المواطن، بعد قطيعة دامت عقودًا.
ويختم بدعوة صريحة إلى دعم هذا المشروع السياسي الجديد، الذي لا يرى في الاقتصاد مجرد أرقام، بل معركة سيادة وعدالة وكرامة. كما يوجه رسالة واضحة إلى الرأسمال الوطني: ازدهاركم لن يكون ممكنًا خارج إطار دولة عادلة تحمي الفئات الضعيفة، وتفسح المجال أمام الشباب لصناعة مستقبلهم داخل الوطن، لا خارجه.

