الرئيسيةآخر الأخبارهل أصبح "الكذب" أكثر إقناعًا من الحقيقة؟

هل أصبح “الكذب” أكثر إقناعًا من الحقيقة؟

لم تعد عبارة “الأخبار الزائفة” مجرّد مصطلح إعلامي يُستخدم لوصف المعلومات المغلوطة التي تتسلل إلى الفضاء العام، بل تحوّلت إلى أداة سياسية تُستخدم غالبًا لتشويه الخصوم أو التقليل من شأن غضب الشارع. فمنذ صعود دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وتفجّر حملات “الحقائق البديلة”، أصبح من السهل تفسير أي موقف شعبي غير مرغوب فيه بكونه نتاجًا للتضليل أو الجهل الجماهيري. لكن هل هذه فعلاً هي المشكلة؟

في مقاله المنشور ضمن عدد جويلية 2025 من Le Monde diplomatique، يعيد الباحث السوسيولوجي دانيال زامورا النظر جذريًا في هذا التفسير السائد. بل يذهب إلى القول إن “الأخبار الزائفة” لا تعكس بالضرورة جهلاً أو هشاشة فكرية، بل بالأحرى تعكس غياب أفق سياسي حقيقي، وانهيار المعنى الجماعي الذي كانت السياسة تُقدّمه للناس.

زامورا يدعونا إلى قلب الطاولة: بدل لوم الناس على انجرافهم خلف السرديات البديلة، فلنُعد التفكير في سبب عجز المؤسسات السياسية والاجتماعية عن تأمين خطاب ذي معنى. في ما يلي نص المقال مترجمًا بتصرّف:

إذا كنا نسمع اليوم كثيرًا عن “الأخبار الزائفة”، فذلك ليس فقط لأن هناك من يصنّع الأكاذيب، بل لأن هناك جمهورًا واسعًا يجد في تلك الأكاذيب شيئًا من المعنى الغائب. التفسير السائد يعتبر أن الشعوب تنجرف خلف هذه الروايات الزائفة بسبب الجهل أو قلّة التربية الإعلامية. لكنّ هذا المنطق يتغاضى عن السبب الأعمق: غياب السياسة، لا الحقيقة.

في العقود الماضية، ومع تراجع اليسار التقليدي وتفكك الأحزاب الجماهيرية، غابت المشاريع السياسية الكبرى التي كانت تمنح الناس أدوات لفهم العالم وموقعهم فيه. لم يعد هناك سرد مشترك يربط بين الفرد والمجتمع، فبات كل شيء يبدو غامضًا، مؤامراتيًّا، وغير خاضع للفهم العقلاني. في هذا السياق، لا تعود الأخبار الزائفة انحرافًا، بل استجابة طبيعية لعالم فقد بوصلته السياسية.

ليس “الضحايا” هنا أفرادًا سذجًا، بل هم في الغالب مواطنون يبحثون – ولو في سرديات بديلة – عن معنى، عن تفسير لما يحدث من حولهم. وعندما لا يجدون ذلك في الخطاب الرسمي أو الإعلام التقليدي، فإنهم يتّجهون نحو مصادر أخرى، حتى وإن كانت غير موثوقة.

إن الاتهام السهل والمريح بأن الشعوب “تُخدع” يخدم السلطة، لأنه يعفيها من المسؤولية، ويركز على الأعراض بدل معالجة الأسباب. لكن الحل لا يكمن في المزيد من الرقابة على المحتوى، أو في “محو أمّية رقمية”، بل في إعادة السياسة إلى مسرح الحياة العامة. فقط مشروع سياسي حقيقي يعيد ربط الأفراد بمصيرهم الجماعي يمكنه أن يُعيد الثقة ويُضعف سحر الروايات الزائفة.

الزمن الذي كان يُفترض فيه أن الحقيقة وحدها كافية لإقناع الناس قد ولّى. لم تعد المعركة على “ما هو صحيح” بل على “ما هو مُفسَّر”، وعلى من يملك القدرة على إنتاج المعنى. وفي هذا السباق، السياسة وحدها قادرة على المنافسة، إذا عادت إلى موقعها الطبيعي كرافعة للخيال الجماعي.

— هل أصبح "الكذب" أكثر إقناعًا من الحقيقة؟
مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!