الرئيسيةآخر الأخبارهل تراجع الدولة عن تجريم "النية الغامضة" كافٍ لحماية الموظف؟

هل تراجع الدولة عن تجريم “النية الغامضة” كافٍ لحماية الموظف؟

صادق رئيس الجمهورية يوم أمس على التنقيح الجديد للفصل 96 من المجلة الجزائية، وهو فصل طالما أثار جدلاً واسعًا في الأوساط الحقوقية والقضائية وحتى السياسية. التنقيح، الذي رآه كثيرون خطوة في اتجاه عقلنة تجريم الموظف العمومي وتحقيق التناسب بين الجريمة والعقوبة، يندرج ضمن مقاربة قانونية يُراد منها محاصرة التأويلات الفضفاضة التي طالما أوقعت عدداً من الموظفين في دوائر الاتهام دون إثبات نية إجرامية واضحة.

وبحسب مختصين في القانون، فإن أبرز ملامح هذا التنقيح تتمثل في:

  1. التقليص من العقوبة من 10 سنوات سجن إلى 6 سنوات، ما يفتح المجال أمام القضاة لتطبيق ظروف التخفيف لتصل العقوبة إلى حدود 6 أشهر فقط.
  2. التنصيص على عنصر القصد الجنائي (تعمد استخلاص فائدة)، وهو ما يُقصي – نظرياً – الاجتهاد الإداري غير المؤسس من دائرة التجريم.
  3. اشتراط الضرر المادي الصريح، عوضاً عن الضرر العام، ما يُضيق من دائرة التأويلات القضائية.
  4. حصر الجريمة في صورتين فقط تتعلقان باستخلاص فائدة للنفس أو للغير، مع حذف بقية الصور التي كانت تجرم الإضرار بالإدارة أو مخالفة التراتيب في غياب نية الإضرار.
  5. الأثر الفوري للتنقيح، باعتباره أكثر رفقاً بالمتهم، استناداً إلى مبدأ تطبيق القانون الأصلح في المجال الجزائي.

غير أن هذا التنقيح، رغم ما رافقه من ترحيب في بعض الدوائر، لم يسلم من النقد، لا سيما من بعض الأصوات الحقوقية التي قرأت فيه “نصاً عادياً بحمولة سياسية مبالغ فيها”. ومن بين هذه الأصوات، برزت المحامية والأستاذة الجامعية نادية الشواشي، التي اختارت أن تسير عكس تيار “الفرح الجماعي” كما سمّته، ودوّنت مقاربة نقدية لافتة.

نادية الشواشي: لا تفرحوا كثيراً… المشكلة أعمق من نص

في تدوينة قانونية تأملية، اختارت الأستاذة الشواشي أن تُخالف ما وصفته بـ”أغاريد السرب”، واعتبرت أن التهليل بتنقيح الفصل 96 ينطوي على قدر من الإفراط، إذ أن التغيير – في جوهره – ليس بالحجم الذي يسمح بإسباغ الطابع التحولي أو الثوري عليه.

وتقول: “صحيح أن التنقيح اقتصد في العبارة وأضاف فعل ‘تعمد’ وخفّض العقوبة… إيه، وماذا بعد؟”، لتؤكد أن التجريم، في صيغته الجديدة كما القديمة، يظل قائماً ما دام الضرر بالإدارة قد حصل مقابل استخلاص فائدة غير مشروعة.

ووفق مقاربتها القانونية، فإن التنصيص على “القصد” لا يغيّر الكثير، إذ أن الفصل 37 من المجلة الجزائية ينص أصلاً على ضرورة القصد الجنائي في كل فعل جرمي، ما يجعل من الإضافة الجديدة مجرد تكرار تأكيدي لا أكثر. وبالتالي، فإن التحول الحقيقي لا يمكن أن يحصل ما لم يكن القضاء نفسه مستقلاً وقادراً على تقييم الوقائع بمعزل عن الضغوط والتعليمات.

تختم الأستاذة الشواشي بأن دولة القانون لا تُبنى بالنصوص فقط، بل بسلطة قضائية مستقلة، نزيهة، ناجزة، قادرة على إحقاق العدالة حتى في غياب “الاحتفال”. وتلك، في رأيها، نقطة الانطلاق الحقيقية نحو إصلاح جذري لا يخضع لمواسم السياسة.

بكل المقاييس، يُعدّ هذا التنقيح خطوة نحو إعادة النظر في علاقة الموظف العام بالإدارة ومفاهيم المحاسبة الجنائية، لكنه يظل مجرد إطار نظري ما لم تصاحبه إرادة قضائية حقيقية لقراءته بموضوعية، وتطبيقه بعدالة، والتأسيس لمرحلة يكون فيها الموظف في مأمن من التعسف، والإدارة في مأمن من الإضرار.

فهل يكون الفصل 96 – بصيغته الجديدة – بداية نهاية “الردع المجرد”، وبداية عهد “العدل المفصل”؟ الجواب… عند القضاة.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!