تجدد الجدل بشكل محموم عبر منصات التواصل الاجتماعي في عدد من الدول العربية، بعد أن أُعيد تداول فتوى منسوبة إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، تحذر من الدعوة إلى ما يُعرف بـ”وحدة الأديان” وترفض فكرة إنشاء “بيت العائلة الإبراهيمية” التي تبنتها دولة الإمارات، معتبرة أن هذه الدعوة “ردة صريحة” تمس أصول العقيدة الإسلامية.
غير أن ما غاب عن كثير من المتابعين – بل وعدد من وسائل الإعلام – هو أن هذه الفتوى ليست جديدة، ولم تُعد أي جهة سعودية نشرها، بل تعود إلى عام 1997، وتحديدًا إلى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، الذي كان يرأس اللجنة في ذلك الوقت.
ورغم وضوح تاريخها لمن بحث عنها بدقة، فإن تداولها على نطاق واسع بصيغة حديثة، ومن دون أي توضيح للسياق الزمني، يطرح تساؤلات جوهرية: لماذا أُعيد نشرها اليوم؟ ومن يقف وراء ذلك؟ وما الهدف من إبرازها في توقيت سياسي وديني حساس تشهده المنطقة؟
تحمل الفتوى رقم 19402، وصدر نصها يوم 25 محرم 1418 هـ (الموافق لـ31 ماي 1997). وقد جاءت في سياق الرد على تساؤلات وردت إلى اللجنة بخصوص الدعوة إلى التقريب بين الأديان أو الجمع بينها تحت راية واحدة، وهي أفكار كانت تُطرح حينها في بعض المحافل الفكرية والإعلامية الدولية، لا سيما مع بدايات مشاريع حوار الأديان.
وتشير الفتوى بوضوح إلى رفض فكرة بناء دور عبادة (مسجد وكنيسة ومعبد) في مكان واحد، واعتبرت أن الاستجابة لمثل هذه الدعوات “لا تجوز شرعًا”، ووصفتها بأنها “خلط بين الحق والباطل”، مؤكدة أن الإسلام هو الدين الحق، والناسخ لما سبقه.
لكن ما يلفت الانتباه أن الفتوى لم تُنشر مجددًا من قبل الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، ولا صدرت أي تصريحات رسمية حديثة من هيئات دينية سعودية في هذا الصدد. بل إن إعادة تداولها جاءت من صفحات على وسائل التواصل وبعض المواقع، دون توضيح أنها تعود إلى أكثر من 28 عامًا.
من يقف وراء إعادة تداولها؟ ولماذا الآن؟
تشير المعطيات إلى أن إعادة نشر الفتوى تمّت من قبل أفراد أو جهات غير رسمية، بعضها من خارج السعودية، وبعضها محسوب على تيارات محافظة أو معارضة لمشاريع التعايش الديني. وساهمت الصياغة الحديثة التي أُرفقت بها، وخلوّ موقع الإفتاء الرسمي من تاريخ الفتوى الأصلي، في إيهام كثيرين بأنها فتوى صادرة حديثًا ردًا على “البيت الإبراهيمي” في أبوظبي.
ويُرجّح أن يكون هدف هذا الترويج:
- إحراج السعودية دوليًا من خلال إبراز خطاب قديم يتعارض مع توجهاتها الجديدة القائمة على الانفتاح والتسامح.
- التشويش على مسار الانفتاح الاجتماعي والديني داخل المملكة، خصوصًا في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها منذ إطلاق رؤية 2030.
- خلق انطباع مزدوج عن السياسة السعودية، يوحي بوجود تناقض بين الخطاب السياسي والانفتاح الثقافي من جهة، والخطاب الديني من جهة أخرى.
- أو حتى ضرب مشروع التقارب مع إسرائيل، عبر تسليط الضوء على فتاوى قد تُفهم على أنها معادية لليهود والنصارى.
السعودية اليوم… واقع جديد وخطاب مختلف
لا يمكن إنكار أن الفتوى تمثل موقفًا دينيًا كان سائدًا في زمنها، لكنها لا تعكس الخطاب الرسمي الحالي للمملكة، التي تحرص في السنوات الأخيرة على تقديم نفسها كدولة منفتحة، داعية للتسامح، ومؤمنة بالتعددية والتعايش بين الأديان والثقافات.
ومن اللافت أن الجهات الرسمية لم تصدر أي تعليق أو إعادة نشر للفتوى، ما يعزز فرضية أن المملكة لا تسعى إلى إحياء مثل هذا الخطاب، بل قد تكون راغبة في تجاوزه أو تأطيره تاريخيًا دون الدخول في جدل فقهي غير ضروري في المرحلة الحالية.
في الوقت ذاته، تبقى السعودية متمسكة بهويتها الإسلامية، ولكنها تعمل على صياغة هذه الهوية بما يتماشى مع متطلبات الحاضر، وموقعها العالمي الجديد.
تُظهر هذه الحادثة أن الفتاوى، رغم طابعها الديني، يمكن أن تتحوّل إلى أدوات ضغط إعلامي أو سياسي إذا أُخرجت من سياقها، وأُعيد توظيفها لتوجيه رسائل معينة أو التشويش على تحولات جارية.
وبينما تخوض المملكة العربية السعودية معركة إعادة بناء صورتها، وتحقيق توازن بين الأصالة والانفتاح، فإن مثل هذه الحملات الإعلامية – العفوية أو المنظمة – تشكّل اختبارًا آخر لقدرتها على التحكم في سرديتها، داخليًا وخارجيًا.

