تباطؤ النمو السكاني، شيخوخة مبكرة، وتراجع الاستثمار في الإنسان… مؤشرات مقلقة لمستقبل ديموغرافي هش
“عائد ديموغرافي” في طريقه إلى التلاشي
في تحليل دقيق نشرته صحيفة EconomieWeek، سلّط الخبير الاقتصادي هاشمي علية الضوء على التغيّرات العميقة التي يعرفها الهيكل الديموغرافي في تونس. فبعد أن كانت البلاد نموذجاً في الانتقال الديموغرافي خلال العقود الماضية، تشهد اليوم تباطؤاً حاداً في النمو السكاني، وهو ما يهدد بفقدان ما يُعرف بـ”العائد الديموغرافي” — أي المرحلة التي يتفوق فيها عدد السكان في سنّ العمل على من هم في سنّ الإعالة (الأطفال و كبار السن).
أرقام المعهد الوطني للإحصاء تُظهر أن معدل الخصوبة في تونس تراجع إلى ما دون 2.1 طفل لكل امرأة، وهو المعدل الذي يضمن تجدد الأجيال، بينما انخفض نمو السكان إلى نحو 1.3%، بل إلى أقل من 1% سنة 2024. ووفق تقديرات الأمم المتحدة، قد ينخفض عدد سكان تونس من 12.3 مليون حالياً إلى 11.7 مليون نسمة في أفق سنة 2100، أي خسارة ديموغرافية صافية.
تآكل الركائز: التعليم والصحة في أزمة
يشير علية إلى أن التحول السكاني في حد ذاته ليس مشكلة، بل يكمن الخطر في تراجع الاستثمار في أهم ركائز التنمية البشرية. فقد انخفض الإنفاق العمومي على التعليم من 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2010 إلى 5.7% فقط في 2021، وهو مستوى يقل عن المتوسط الإقليمي.
أما في قطاع الصحة، فقد ارتفعت نسبة الإنفاق الشخصي المباشر من الأسر إلى أكثر من 40% من التكاليف، ما يعني تدهور جودة الخدمات العمومية وزيادة التفاوت في فرص الحصول على العلاج، خاصة في المناطق الداخلية.
الإسكان: بين الفوضى واللاجدوى
أبرز التقرير أيضًا التناقض الكبير في سياسة الإسكان. بين سنتي 2014 و2021، تم بناء أكثر من 763 ألف وحدة سكنية، في حين لم يزد عدد الأسر التونسية خلال نفس الفترة سوى بنحو 600 ألف. نصف هذه الاستثمارات جاءت من القطاع الخاص، دون وجود سياسة سكن وطنية واضحة، ما أسفر عن انتشار الفوضى العمرانية، ارتفاع عدد المساكن المغلقة، وتراجع جودة الحياة في المدن.
فوارق جهوية تتسع
كشف علية أن تونس تعاني من اختلالات مجالية متفاقمة. فمناطق الشمال الغربي والوسط الغربي تعرف معدلات نمو سكاني سالبة، بسبب الهجرة نحو المدن الساحلية الكبرى، وضعف فرص التنمية المحلية. ويُهدد هذا التفاوت وحدة النسيج الاجتماعي ويدفع إلى مزيد من التفاوت في توزيع الثروات والخدمات.
تونس تُشبه الدول الغنية… دون إمكانياتها
في مفارقة لافتة، يوضح علية أن تونس تواجه نفس التحديات الديموغرافية التي تواجهها دول أوروبية وآسيوية متقدمة: شيخوخة، انخفاض الخصوبة، وهجرة كفاءات. إلا أن الفرق الجوهري هو أن هذه الدول تملك إمكانيات اقتصادية وبُنى دعم اجتماعي تمكّنها من التعامل مع هذه التغيرات، بينما تونس تُواجهها دون تجهيزات أو استراتيجيات طويلة المدى.
هل هناك أمل في استعادة التوازن؟
يختم علية تحليله بدعوة صريحة إلى مراجعة السياسات العمومية، والتفكير الجاد في مستقبل الرأسمال البشري في تونس. ويؤكد أن “العائد الديموغرافي” ليس مجرد فترة زمنية، بل هو فرصة قابلة للاستثمار — وإذا لم تُستثمر في التعليم والصحة والعدالة المجالية، فإن تونس مهددة بخسارتها إلى الأبد.

