رغم التنصيص الدستوري الصريح على الحق في التعليم وضمان مجانيته وإلزاميته حتى سن السادسة عشرة، ورغم التزامات تونس الدولية في هذا المجال، فإن مؤشرات الواقع الميداني تكشف عن تراجع خطير في جودة التعليم العمومي، خاصة في المناطق المهمشة، وفق ما خلص إليه تقرير جديد أصدره المرصد التونسي للاقتصاد.
وأشار التقرير إلى أن التعليم لم يعد أولوية فعلية في السياسات العمومية، حيث تراجع نسق الاستثمار في هذا القطاع الحيوي، مقابل التزامات مالية أثقلت كاهل الدولة، مثل خدمة الدين التي تمثل قرابة 30% من الميزانية، وتجميد الانتدابات وتدهور القدرة الشرائية. هذه العوامل، مجتمعة، ساهمت في تعميق أزمة المدرسة العمومية وتوسيع الهوّة بين الجهات.
واستند المرصد في تحليله إلى دراسة حالة أنجزها حول واقع التمتع بالحق في التعليم في ولاية القصرين، مبرزًا حجم الإخلالات الهيكلية والانتهاكات التي تطال هذا الحق، من اكتظاظ الأقسام، ونقص الإطار التربوي، إلى تهالك البنية التحتية وغياب النقل المدرسي الآمن.
وقد سلّط التقرير الضوء على حوادث مأساوية وقعت مؤخرًا، منها انهيار جدار في معهد ثانوي في المزونة أسفر عن وفاة ثلاثة تلاميذ، وحادث نقل مدرسي في حاسي الفريد راح ضحيته تلميذ وأُصيب آخرون.
ورغم تعدد التحركات الاحتجاجية من المدرسين والأولياء وحتى التلاميذ، يرى المرصد أن الحكومات المتعاقبة لم تتفاعل بشكل جدّي مع الأزمة، ولم تُقدّم بدائل إصلاحية ناجعة أو رؤية شاملة لإنقاذ المنظومة التربوية. كما حذّر من أن استمرار هذا الجمود قد يقود إلى انهيار فعلي للحق في التعليم، خاصة في المناطق الأكثر هشاشة.
في هذا السياق، دعا المرصد إلى ضرورة تبني مقاربة اقتصادية قائمة على حقوق الإنسان، تضع تمويل التعليم في قلب السياسات العمومية، وتبتعد عن منطق التقشف وتخفيض الإنفاق الاجتماعي، بما يضمن المساواة في النفاذ إلى التعليم الجيد والآمن.
ويهدف التقرير إلى إطلاق حوار وطني يجمع مختلف الفاعلين في القطاع – من وزارة التربية، إلى النقابات، والمجتمع المدني، والباحثين والخبراء – من أجل مراجعة السياسات التربوية القائمة، وتقييم مدى نجاعة تمويل التعليم منذ آخر إصلاح سنة 2002، ومدى توافق الأهداف الرسمية مع تطلعات مختلف الأطراف.
واختتم المرصد تقريره بجملة من التوصيات أبرزها:
- ضرورة الترفيع في ميزانية وزارة التربية.
- مراجعة الأولويات الاقتصادية الوطنية بما يخدم التوازن الاجتماعي والجهوي.
- بناء شبكة دعم تضم الفاعلين من المجتمع المدني والنقابات والأولياء والخبراء، تكون قوّة اقتراح في مجال إصلاح وتمويل التعليم العمومي.
ويأتي هذا التقرير في وقت تتصاعد فيه المخاوف من انهيار تدريجي للمنظومة التربوية، مما يستوجب تحركًا وطنيًا عاجلًا لإعادة الاعتبار للحق في التعليم كركيزة أساسية للعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

