الرئيسيةآخر الأخبارمن يملك طاقة تونس؟ تقرير يكشف عن الوجه الخفي للشعارات الرنانة

من يملك طاقة تونس؟ تقرير يكشف عن الوجه الخفي للشعارات الرنانة

على امتداد تاريخها الحديث، لم تنجح تونس في كسر حلقة التبعية الطاقية التي بدأت في الحقبة الاستعمارية وامتدت إلى ما يُعرف اليوم بـ”التحول الأخضر”.

فبينما يُروَّج للطاقة المتجددة كرافعة للتنمية المستدامة، تكشف المعطيات أن كثيرًا من المشاريع الجارية تُعيد إنتاج نفس آليات الاستغلال الاقتصادي، ولكن هذه المرة تحت راية “الاستدامة البيئية”.

من الاستعمار التقليدي إلى التبعية البيئية

خلال مداخلة في مائدة مستديرة نظّمتها “منصة الإصلاح العربي”، أوضحت الباحثة ياسمينة الأمين أن البنية التحتية للطاقة في تونس صُمّمت منذ الحقبة الاستعمارية بما يخدم مصالح أوروبا، وليس احتياجات التنمية المحلية. وبقي هذا الإرث قائماً بعد الاستقلال، حيث لم تنجح الدولة في بسط سيادتها الكاملة على القطاع، وظلت رهينة المبادرات الأجنبية و”المساعدات المشروطة” التي غالباً ما تُوَجَّه لخدمة أسواق خارجية.

اليوم، يعيد التاريخ نفسه مع مشاريع الطاقة المتجددة. فالمشاريع الكبرى المصممة للتصدير نحو أوروبا، مثل “Elmed” و”RePowerEU”، تُهيكل إنتاج الطاقة على أساس الطلب الأوروبي، لا على أساس الحاجات المحلية، مما يُهدد بتحويل تونس إلى مجرد مزوّد للطاقة النظيفة دون أن تجني مجتمعاتها الفقيرة أي نفع مباشر منها.

تمويل أجنبي… مقابل السيادة

تلعب المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي دورًا بارزًا في إعادة تشكيل مشهد الطاقة في تونس، من خلال قروض وتمويلات ومبادرات مثل الشراكة الأوروبية-التونسية في الطاقة الخضراء.

غير أن هذه “الدعم المالي” غالبًا ما يأتي بشروط، من بينها إصلاحات هيكلية تُسرّع الخصخصة وتُضعف قدرة الدولة على ضبط السياسات العمومية.

وقد حذّر التقرير من أن هذه الديناميكيات تندرج ضمن ما يُعرف بـ”التكيف الهيكلي الأخضر”، حيث تُستخدم القروض البيئية كأداة لإعادة فرض أولويات السوق على السياسات الوطنية. ومع تصاعد المشاركة الأوروبية في مشاريع البنية التحتية للطاقة بشمال أفريقيا، تبرز مخاوف حقيقية من أن يتحوّل التحول الطاقي إلى شكل جديد من الاستعمار الاقتصادي.

الهيدروجين الأخضر: طاقة نظيفة تُهدد المياه

من بين المشاريع التي أثارت جدلاً واسعًا، يبرز مشروع وادي الهيدروجين الأخضر، الذي يُسوَّق له على أنه فرصة لجعل تونس قطباً إقليمياً في إنتاج الهيدروجين. إلا أن هذا المشروع يعتمد على تحلية كميات ضخمة من مياه البحر، وهو ما يُشكّل خطراً كبيراً على الأمن المائي الوطني، خاصة أن 27% من التونسيين يعانون أصلاً من نقص المياه الصالحة للشرب، بحسب إحصائيات وطنية.

التقديرات تشير إلى أن إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين الأخضر قد يستهلك نحو 9 لترات من المياه، ما قد يُضيف ضغطًا هائلًا على موارد مائية تُصنّف ضمن الأدنى عالميًا، بأقل من 400 متر مكعب للفرد سنويًا. وقد عبّرت منظمات المجتمع المدني، مثل “المرصد التونسي للمياه” و”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، عن خشيتها من أن يتم تحويل المياه من الاستخدامات الزراعية والمنزلية إلى خدمة احتياجات السوق الأوروبية.

في غياب أطر حوكمة قوية وآليات واضحة لتقاسم المنافع، فإن مشاريع التحول الأخضر الحالية تخاطر بتكريس نمط جديد من الاستخراج، حيث يتم تصدير الطاقة وجني الأرباح في الخارج، بينما تتحمّل المجتمعات المحلية الأعباء البيئية والاقتصادية.

وقد سبق لتونس أن صُنّفت في المرتبة 20 ضمن تقرير “كلايمتسكوب 2023” من حيث جاذبية الاستثمار في الطاقة المتجددة. غير أن هذا الترتيب، وإن مثّل مؤشرًا للفرص، إلا أنه يُخفي في طياته هشاشة في السيادة الطاقية، وزيادة في تغلغل الفاعلين الأجانب في قلب السياسة الطاقية الوطنية.

حلول بديلة: الطاقة كحق شعبي وليس سلعة مربحة

لوقف هذا المسار، يشدد التقرير على ضرورة إعادة هيكلة شاملة لنموذج الطاقة في تونس. فبدلاً من تسليم مستقبل البلاد الطاقي للمستثمرين الأجانب، يُقترح أن تعتمد الدولة على نماذج ملكية محلية تعاونية، تُشرك المجتمعات في إنتاج الطاقة وتوزيع عائداتها.

وتقدّم تجارب دول مثل الدنمارك نموذجًا بديلًا، حيث تمتلك المجتمعات المحلية مشاريع الطاقة وتستفيد منها بشكل مباشر. كما يمكن للتمويل التعاوني والصناديق الائتمانية للطاقة أن توفّر تمويلاً بديلاً عن القروض المشروطة.

تواجه تونس اليوم مفترق طرق حاسمًا: إما أن تقود تحولها الطاقي نحو سيادة بيئية وعدالة اجتماعية، أو أن تنخرط في موجة جديدة من التبعية تحت شعار “الطاقة النظيفة”. والرهان الحقيقي لا يتمثل فقط في جذب الاستثمار، بل في ضبطه وضمان أن يخدم التنمية الوطنية أولاً.

إن السيادة الطاقية ليست رفاهًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان العدالة الاجتماعية، وحماية الموارد الطبيعية، وبناء اقتصاد مقاوم ومستقل. وقد حان الوقت لتونس أن تُحدّد لنفسها مَن يملك قرار طاقتها: شعبها، أم شركاؤها الدوليون؟

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!