مقتل عبد الغني الككلي “غنيوة” مساء الاثنين في طرابلس هو حدث مدوٍّ بكل المقاييس، وبغض النظر عن كل ما سبقه لن يكون مجرد حادث عابر. دون أدنى شك قتل رجل بتلك القوة، زلزال ضرب وسيضرب عمق صراعات النفوذ والسلاح والمصالح المتجذرة في قلب العاصمة، وينذر بمستقبل قاتم ومجهول.
“غنيوة” وهو الاسم الأشهر عند الليبيين، لم يكن مجرد شخص عابر في سجلات الفوضى الليبية، ولا مغامرًا يافعًا قذفته الأقدار أمام رصاصة طائشة. لقد كان كما عُرف في أزقة طرابلس ودهاليز السلطة الملتوية، تجسيدًا حيًا لفترة ما بعد 2011. منذ إسقاط نظام العقيد معمر القذافي برز الككلي كقوة صاعدة، ونحت لنفسه مكانًا في عالم المجموعات المتصارعة. لم يكن مجرد قائد مسلح، بل كان رمزًا لسلطة الأمر الواقع في العاصمة، ورجلًا تتقاطع عنده خيوط النفوذ والمال والسلاح.
تشير المعلومات المتواترة عن أن العملية تمت خلال اجتماع عقد في معسكر التكبالي بالعاصمة. هذا الاجتماع كان من المفترض أن يضم قيادات بارزة من المنطقة الغربية، سعيًا ربما لتهدئة التوترات أو بحث ملفات مشتركة. من بين الحضور إلى جانب غنيوة، كان عبد السلام الزوبي، وعماد الطرابلسي، وعبد الله الطرابلسي “الفراولة”، بالإضافة إلى محمود حمزة وقيادات أخرى من مصراتة.
تقول مصادر أن “غنيوة” وصل إلى الاجتماع محاطًا بعدد كبير من من حراسه، كما في كل مرة يخرج فيها في شوارع طرابلس، وهي عملية تبطن نوعا من الاستعراض رغبة في إثبات القوة والنفوذ. لكن سرعان ما تحول اللقاء الذي كان يُفترض أن يكون منصة للحوار إلى ساحة للخلاف. بدأت المناوشات الكلامية والملاسنة بين الحاضرين تتصاعد تدريجيًا، لتنفجر في النهاية بإطلاق نار كثيف. وسط هذه الفوضى الدامية، سقط عبد الغني الككلي قتيلًا، لتنتهي بذلك حقبة من النفوذ والسلطة في العاصمة الليبية بطريقة وحشية ومفاجئة.
هذه التفاصيل، ذهب البعض حتى إلى أنها لم تكن مجرد عملية اغتيال عشوائية، بل كانت ضمن تخطيط للتخلص من الرجل، لكنها في كل الأحوال ستلقي بظلال ثقيلة على مستقبل العاصمة طرابلس، لأنها تؤكد أن “صراع العروش” على السلطة والمصالح يُدار بالرصاص والدماء، قبل أن يكون في الصالات الفخمة والاجتماعات المغلقة.
طرابلس كانت منذ 2011 ساحة لتنافس محموم بين قوى الأمر الواقع، حيث تتداخل خيوط التحالفات وتتبدل الولاءات بشكل لافت. اغتيال “غنيوة” سيفتح الباب واسعًا أمام إعادة رسم خرائط السيطرة والنفوذ، وسيُعيد إلى الواجهة التناقضات الكامنة بين المتنفذين سياسيًا وعسكريًا. كان الككلي، بصفته قائد جهاز دعم الاستقرار الذي يضم في صفوفه غالبية من أبناء طرابلس وأحيائها الشعبية، يمثل نوعًا من الثقل الموازن في مواجهة التشكيلات المسلحة التي قدمت إلى المدينة من مناطق أخرى. فبعد أفول نجم هيثم التاجوري منذ العام 2022، بقي “غنيوة” الصوت “الطرابلسي” الأخير في سيمفونية الفوضى المسلحة التي تعزفها المجموعات المسلحة المختلفة.
بمقتل “غنيوة” قد تواجه طرابلس مستقبلًا تهيمن عليه بشكل كامل التشكيلات المسلحة الجهوية، وعلى رأسها مجموعات مصراتة أولًا ثم الزنتان ثانيًا. ويرى مراقبون أن رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة ووزير داخليته عماد الطرابلس اللذين يصنفان مناطقيا على مصراتة والزنتان، يلعبان على وتر الجغرافيا ضمن خطة توسيع النفوذ وضمان الحماية. ورغم أن الهدف الظاهري من العملية هو تعزيز نفوذ حكومة الدبيبة في العاصمة وتثبيت أركانها في وجه العواصف السياسية القادمة مسنودا من الطرابلسي، إلا أن هذا التحالف الهش، القائم على تقاسم المصالح الآنية، في الغالب تكون نهايته دراماتيكية لا تقل عن اللحظة التي انتهى بها غنيوة.
فأكثر نقطة ضعف يمكن أن يستغلها أي طرف ثالث طامع في النفوذ في طرابلس، سواء كان الطرف داخليا وأساسا من شرق البلاد أو خارجيا (هنا تتعدد القوى مع عودة الصوت الأمريكي)، هي التناقض بين جناح محسوب على مصراتة وجناح محسوب على الزنتان. ولطالما كانت معادلة “مصراتة ضد الزنتان” هي الوصفة الأكثر دموية وتدميرًا للعاصمة منذ عام 2011، مرورًا بصراعات السيطرة على المؤسسات والمقرات، وصولًا إلى حرب فجر ليبيا وحرب عام 2019 الأخيرة.
في خضم هذه التطورات المتسارعة، يتردد الحديث عن إمكانية صعود اللواء 444 بقيادة محمود حمزة كقوة جديدة قادرة على ملء الفراغ الذي تركه “غنيوة”. يمتلك هذا الجهاز دعمًا حكوميًا وقوة مالية لا يستهان بها، لكن على أرض الواقع، لا يزال يعتبر حديث التأسيس نسبيًا وضعيفًا، ويفتقر إلى الخبرة والتجربة العسكرية المتجذرة. يضاف إلى ذلك أن غالبية منتسبيه هم من الشباب الذين لا خبرة لديهم في المعارك الكبرى. وعلى الرغم من الدعاية الإعلامية الكبيرة التي تحيط به، إلا أن قوته الميدانية الفعلية لا تزال موضع شك، وهو ما تجلى بوضوح عندما استدعته قوة الردع الخاصة واحتجزت قائده محمود حمزة لفترة قبل إطلاق سراحه بوساطات وتدخلات.
ووسط الحديث عن مشهد الرصاص هناك مفارقة عجيبة ربما لها صداها في العاصمة، أن غنيوة الذي يعتبره كثيرون الصورة الحقيقية لمفهوم “اللادولة”، سيكون “خسارة” لطرابلس التي يرى أبناؤها أن وجوده فيها بكل ما في تجربته من تجاوزات كان ضروريًا للحفاظ على توازن هش في مواجهة الأجنحة المناطقية الأخرى، والتي ستتوسع خطوتها بكل تأكيد خاصة إلى ضُرِبَت الروح المعنوية لبقية مسلحيه.
مقتل عبد الغني الككلي لن يكون مجرد خسارة لمسلح “رمز” في ليبيا. إنه حدث مفصلي قد يتجه مجددا نحو حالة من عدم الاستقرار والصراع في طرابلس. المدينة التي عانت بما فيه الكفاية من ويلات الاقتتال الأهلي، تقف الآن على حافة هاوية جديدة، حيث تتصارع قوى طامعة على النفوذ، وتحمل في طياتها بذور حروب قادمة.
مستقبل العاصمة الليبية معلق بين فكي كماشة: فوضى عارمة تهدد بتمزيق ما تبقى من نسيجها الاجتماعي، أو تدخل حاسم من قوى وطنية مخلصة تسعى لفرض الأمن والاستقرار قبل فوات الأوان. لكن في ظل المشهد الحالي المعقد والمتشابك، يبدو الخيار الأول هو الأرجح، لتدفع طرابلس ولتناقضات الأمور، ثمنًا كبيرا لغياب أحد “صعاليكها” الذين كان لسنوات خط مواجهة “جريء” في وجه طوفان المجموعات الجهوية.
*** بوابة أفريقيا الاخبارية

