يُعدّ زيت الزيتون التونسي من أنقى وأجود الزيوت في العالم، وهو فخر الفلاحين التونسيين ومصدر رئيسي للعملة الصعبة.
غير أن هذا “الذهب السائل” لم يسلم من شبكات الجريمة المنظمة التي وجدت فيه منجمًا سهلًا للربح عبر التزوير وإعادة التصدير على أنه زيت “إيطالي الصنع”.
تحقيقات أمنية وقضائية وصحفية دولية تكشف منذ سنوات عن مافيات غذائية تمتدّ من ضفاف البحر الأبيض المتوسط إلى الأسواق الأمريكية، تخلط الزيوت وتزيف المنشأ وتستغل ثغرات تجارية وقانونية لتسويق منتج تونسي تحت راية “صنع في إيطاليا”.
من تونس إلى نابولي… رحلة الزيت المسروق
تبدأ القصة في المعاصر التونسية المنتشرة من صفاقس إلى الساحل والجنوب، حيث يُنتج مئات الآلاف من الأطنان سنويًا. جزء كبير من هذا الإنتاج يُصدّر في شكل زيت خام نحو أوروبا، وخاصة إلى إيطاليا وإسبانيا، بهدف إعادة التعبئة أو الخلط.
تستغل شبكات منظمة هذا المسار الشرعي لتُمرّر كميات ضخمة من الزيت التونسي وتعيد تعبئته في مصانع مشبوهة جنوب إيطاليا أو في جزر صقلية وسردينيا. هناك، يُخلط الزيت التونسي بزيوت أرخص أو أقل جودة، ثم يُعاد تسويقه بعلامات تجارية شهيرة على أنه زيت “إيطالي بكر ممتاز”.
وتكشف تحقيقات شرطة الاتحاد الأوروبي (Europol) ضمن عمليات “OPSON” أنّ المافيا الإيطالية أصبحت ترى في الغذاء “نفطًا أبيض” يدرّ أرباحًا طائلة تفوق تجارة المخدرات في بعض المناطق، بخطر ملاحقة قانونية أقل.
260 ألف لتر من الزيت المزيف… وإيطاليا في قلب العاصفة
في ديسمبر 2023، أعلنت OCCRP (منظمة الصحافة الاستقصائية الدولية) عن مصادرة أكثر من 260 ألف لتر من زيت الزيتون المغشوش في كلٍّ من إسبانيا وإيطاليا، بعد تحقيق أوروبي مشترك أسفر عن اعتقال 11 شخصًا، من بينهم أصحاب شركات تعبئة وتجار وسطاء.
التحقيقات أثبتت أنّ جزءًا من الزيت كان مصدره شمال إفريقيا، خصوصًا تونس واليونان، حيث يُشترى الزيت الأصلي بسعر منخفض ثم يُعاد بيعه في الأسواق الأمريكية بعلامة “إيطالية”.
ويقول تقرير المنظمة: “لقد استغلت المافيا الفجوة بين المصدر والسوق، فحوّلت منتجًا ذا جودة عالية إلى سلعة مزيفة مربحة، بينما خسر المنتج الأصلي كل قيمة اسمه.”
لا تتوقف الخسارة عند فقدان القيمة المضافة، بل تتعمّق حين يُباع المنتج التونسي في الخارج وكأنه منتج أجنبي.
فبحسب أرقام وزارة الفلاحة، تصدّر تونس سنويًا ما بين 250 و300 ألف طن من زيت الزيتون، منها نسبة كبيرة خامًا. هذا الزيت، حين يُعبّأ في الخارج، يضاعف قيمته ثلاث أو أربع مرات.
يقول أحد أصحاب المعاصر في سيدي بوزيد:“نبيع اللتر بسعر لا يتجاوز 10 دنانير، بينما يُباع في نيويورك بـ40 دولارًا… والملصق يقول ‘منتوج إيطالي’.”
في المقابل، تتأثر صورة المنتج التونسي في الأسواق العالمية، لأن أي فضيحة غش أو تزوير تنعكس على جميع زيوت البحر المتوسط، حتى تلك النقية والصادقة.
تحقيقات علمية تكشف الحقيقة
تستعين السلطات الأوروبية اليوم بوسائل تحليل متقدمة مثل البصمة النظائرية (isotopic fingerprinting) لتحديد منشأ الزيت بدقة عبر خصائص التربة والمناخ.
وقد أكّدت نتائج مخبرية عدّة أنّ زيوتًا تسوَّق على أنها “إيطالية” تحمل في الواقع الخصائص الكيميائية والزراعية لزيت الزيتون التونسي.
وتُظهر بيانات Olive Oil Times (2024) أنّ عددًا من الشركات الإيطالية الكبرى تعرّض لغرامات ضخمة بسبب خلط زيوت أجنبية بزيت محلي، ضمن عمليات تجارية معقدة شاركت فيها شركات استيراد وسيطة في صقلية ومالطا.
وفي تونس، بدأت بعض المبادرات الحكومية والخاصة للحد من تصدير الزيت الخام وتشجيع التعبئة المحلية. كما تزايد عدد العلامات التجارية التي تحمل هوية “زيت تونسي 100%” والمحمية بعلامة المنشأ (PDO/IGP).
لكن هذه الجهود تصطدم بضعف التمويل ونقص الترويج الخارجي، إضافة إلى تعقيدات النفاذ إلى الأسواق الأوروبية التي ما تزال خاضعة للوبيات غذائية قوية.
في كل الأحوال فان “المافيا لا تسرق الزيت فقط، بل تسرق القصة التي وراءه — تاريخ الفلاح، والمناخ، والأرض. على تونس أن تبني سرديتها الاقتصادية الخاصة بزيتها قبل أن تُكتب في مكان آخر.”

