الرئيسيةآخر الأخبارالتفاهة والتبرير والسطحية ..عندما تتحول شبكات التواصل الإجتماعي إلى آلة لإعادة إنتاج...

التفاهة والتبرير والسطحية ..عندما تتحول شبكات التواصل الإجتماعي إلى آلة لإعادة إنتاج الجهل

ليس كتاب “رذائل المعرفة” للفيلسوف باسكال إنجل مجرد دراسة فلسفية نخبوية، بل هو مرآة نقدية حادّة تسائل علاقتنا بالمعرفة، وتكشف كيف يمكن للذكاء أن ينقلب إلى مكيدة فكرية، وللرأي أن يُستعمل كسلاح للسيطرة بدلًا من الحوار.

ينطلق الكتاب من فكرة بسيطة لكنها عميقة: الاعتقاد ليس مجرد معرفة، بل موقف أخلاقي. فليس المهم فقط أن نؤمن بفكرة صحيحة، بل أن نؤمن بها لأسباب نزيهة وبنية صادقة. وهنا تظهر “الرذائل المعرفية” بوصفها انحرافات فكرية وأخلاقية مثل الغرور، والسطحية، والتعصب، والثرثرة، والادعاء، والتبرير الأعمى.

المعرفة بين الفضيلة والرذيلة

في زمن غزارة المعلومات، لم يعد التحدي هو الوصول إلى المعرفة، بل التمييز بين الصدق والتضليل، وبين من يفكر بعمق ومن يتحدث فقط ليروج أفكاره. ويحذر المؤلف من أن بعض الناس – من سياسيين ومثقفين ومؤثرين – لا يستعملون المعرفة لفهم العالم، بل لبسط سلطة خفية عبر الكلام المنمق والمواقف الجاهزة.

وبهذا المعنى، تصبح الرذائل المعرفية تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية والتفاهم الإنساني، لأنها تُفرغ النقاش من جوهره، وتحوّل الفكرة إلى أداة للإقصاء بدل الفهم.

من الإقناع إلى الاستعراض

يرى باسكال إنجل أن أكبر خطر يهدد العقل اليوم ليس الجهل، بل ادّعاء المعرفة دون مساءلة. فحين يُقدَّم الرأي كأنه حقيقة مطلقة، أو حين تُستعمل اللغة لتبرير مواقف مسبقة، يُمارَس عنف معرفي ناعم يمر دون مقاومة. لهذا يدعو إلى تربية عقلية جديدة، تكرّس فضائل مثل التواضع الفكري، والتفكير التأملي، وقابلية المراجعة.

من أجل بيئة معرفية عادلة

لا يدعو المؤلف إلى نقد الأفراد، بل إلى إصلاح المناخ الثقافي والتربوي والإعلامي الذي يسمح للرذائل الفكرية بالانتشار. فمواجهة هذه الانحرافات تتطلب بيئة تُكافئ الإنصات على حساب الاستعراض، وتُثمِّن النقاش العميق على حساب الإثارة السطحية، وتشجع على الشك النزيه بدل التصديق المريح.

كيف تساهم شبكات التواصل في ترذيل المعرفة؟

  1. السرعة على حساب العمق
    شبكات التواصل تُكافئ المعلومة السريعة والمختصرة والمثيرة، لا التحليل العميق أو الحجج المركّبة. وهكذا، يُصبح التفكير السطحي والمختزل هو القاعدة، فيما يُهمَّش التفكير النقدي والمتأني.
  2. ثقافة الرأي بدل المعرفة
    في هذه المنصات، يتحوّل كل شخص إلى “خبير” أو “محلل” في كل شيء، فتُستبدل الحجج بالتعليقات، ويُختزل النقاش في مواقف جاهزة وشعارات مسبقة. ومع الوقت، يُصبح الرأي الشخصي مرادفًا للحقيقة، حتى دون أدنى أساس معرفي.
  3. الاستعراض بدل التبادل
    كثير من الخطاب في هذه الشبكات يُمارَس من أجل الظهور والهيمنة الرمزية، وليس من أجل الفهم أو الإقناع. ويُعد هذا شكلًا واضحًا مما سماه باسكال إنجل: “الاستعراض المعرفي”، حيث تُستخدم المعرفة كزينة أو أداة تفوق، لا كوسيلة للحوار.
  4. التحفيز العاطفي بدل العقلاني
    خوارزميات المنصات تُفضّل المحتوى الذي يُثير الجدل، الغضب، أو الانفعال، لا المحتوى المتوازن والعقلاني. وهذا يُغذي الرذائل المعرفية مثل التحيّز، والعناد، والعدوانية الفكرية.
  5. إعادة إنتاج الجهل بنمط جديد
    يتم عبر هذه الشبكات تدوير المحتوى الزائف، أو المضلّل، أو التفاهات الملفوفة بلغة معرفية، ما يُنتج ما يمكن وصفه بـ”الجهل المقنّع”، أو “المعرفة المغشوشة” التي تُتداول على نطاق واسع وتُضفي شرعية زائفة على آراء لا تستحقها.

رذائل المعرفة ليس كتابًا للنخبة فقط، بل جرس إنذار لكل من يمارس تأثيرًا على عقول الناس: سياسي، إعلامي، معلم، رجل دين، أو حتى صانع محتوى. إنه دعوة صريحة لنُعيد النظر في نوايانا المعرفية، وفي أخلاقيات التفكير والنقاش. لأن أخطر ما قد يحدث للمعرفة، هو أن تتحول إلى أداة لتجميل الجهل وتبرير التفاهة.

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!