أفادت صحيفة «Gotham City» المتخصصة في الشؤون القضائية بأن المحكمة الجنائية الفدرالية قررت قبول الطعن الذي تقدّمت به الدولة التونسية ضد قرار النيابة العامة الفدرالية السويسرية المتعلق بمصادرة أموال عائلة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وبناءً على هذا القرار، تم إلغاء أمر مصادرة مبلغ قدره 5 ملايين فرنك سويسري ( 18.3 مليون دينار تونسي) كان مجمّدًا في بنك بمدينة جنيف ويُعتقد أنه يعود إلى أحد أفراد عائلة الطرابلسي، المقربين من الرئيس الراحل.
المحكمة السويسرية أوضحت أن النيابة الفدرالية ارتكبت خطأ إجرائيًا (vice de forme) عندما لم تُخطر رسميًا الجانب التونسي بموعد إغلاق التحقيق قبل إصدار قرار المصادرة، وهو ما اعتبرته انتهاكًا لحق الدولة التونسية في الدفاع.
وبذلك، أعادت المحكمة الملف إلى النيابة العامة الفدرالية لمواصلة النظر فيه، ما يعني عمليًا أن عملية استرجاع الأموال المجمدة ستُؤجَّل مجددًا إلى أجل غير معلوم.
يُذكر أن هذه الأموال تُعد جزءًا من نحو 60 مليون فرنك سويسري جمّدتها برن سنة 2011 بعد سقوط نظام بن علي، في إطار التحقيقات المتعلقة بعمليات غسل أموال وفساد ارتكبها أفراد من النظام السابق.
القضية التي فجّرت الجدل تتعلق بقرار سابق أصدرته النيابة العامة الفدرالية السويسرية يقضي بمصادرة نحو 5 ملايين فرنك سويسري من حسابات مرتبطة بعائلة الرئيس الأسبق بن علي. وقد تمّ تجميد هذه الأموال منذ الثورة التونسية في إطار مسار قضائي طويل ومعقد يهدف إلى تحديد مصدرها الحقيقي.
لكن النيابة العامة قرّرت، بعد سنوات من التحقيق، مصادرة الأموال نهائيًا لفائدة الدولة السويسرية، معتبرة أنّها متأتية من أنشطة غير مشروعة، دون أن تستكمل جميع الإجراءات القانونية اللازمة لضمان حقوق الأطراف المعنية.
في خطوة فاجأت بعض المراقبين، قدّمت الدولة التونسية طعنًا رسميًا أمام المحكمة الجنائية الفدرالية السويسرية ، معتبرة أنّ قرار النيابة العامة شابه خلل إجرائي جوهري، وأنه يهدّد إمكانية استعادة الأموال مستقبلًا.
وبالفعل، قضت المحكمة يوم 15 أكتوبر 2025 بقبول الطعن وإلغاء قرار المصادرة، مؤكدة أن النيابة العامة لم تحترم الإجراءات الشكلية الأساسية المنصوص عليها في القانون الفدرالي، ما يجعل عملية المصادرة باطلة.
لماذا تعارض تونس قرارًا يصبّ في مصلحتها الظاهرية؟
السؤال الذي حيّر كثيرين هو: لماذا تعارض تونس مصادرة أموال كانت في الأصل تعود إليها؟
الجواب أن المصادرة في القانون السويسري لا تعني بالضرورة إعادة الأموال إلى أصحابها الأصليين. ففي غياب اتفاق واضح مع الدولة المعنية، تُحوَّل الأموال المصادرة إلى خزينة الدولة السويسرية، وتُغلق الملفات نهائيًا.
بمعنى آخر، لو لم تتدخل تونس وتطعن في القرار، لأصبحت الأموال فعليًا ملكية نهائية للدولة السويسرية تحت عنوان “مصادرة قضائية”. ولهذا السبب، كان الاعتراض ضروريًا لحماية حقها القانوني في المطالبة بتلك الأموال لاحقًا، بعد تصحيح المسار الإجرائي.
من هنا جاء العنوان المثير للسخرية للصحيفة السوسرية : «تونس تعارض إعادة 5 ملايين إلى تونس».
فالدولة التونسية لم تكن تعارض مبدأ الاستعادة، بل تعارض الطريقة التي تعاملت بها سويسرا مع الملف، معتبرة أن إجراءات المصادرة غير السليمة قد تؤدي إلى ضياع حقها.
وهذه المفارقة تسلط الضوء على الثغرات القانونية التي تعرقل منذ سنوات عملية استرجاع الأموال التونسية المجمدة في الخارج، خصوصًا في سويسرا، حيث تخضع عمليات الإرجاع لشروط معقدة تتطلب تعاونًا قضائيًا وثيقًا، وتحقيقات مطوّلة لتحديد الجهة المالكة الحقيقية للأموال.
منذ 2011، جمّدت السلطات السويسرية عشرات الملايين من الفرنكات العائدة إلى محيط الرئيس المخلوع، في خطوة نالت استحسانًا دوليًا آنذاك. غير أن استعادة هذه الأموال ظلّت عملية شاقة وبطيئة للغاية، بسبب تشابك القوانين واختلاف المعايير بين النظامين القضائيين التونسي والسويسري.
ولئن تمكنت تونس من استرجاع مبالغ محدودة خلال السنوات الماضية، فإن الجزء الأكبر من الأصول لا يزال قيد النزاع أو في انتظار البتّ القضائي النهائي.
رمزية القرار
قرار المحكمة الجنائية الفدرالية بإلغاء المصادرة يُعدّ انتصارًا قانونيًا رمزيًا لتونس، لأنه أعاد فتح الباب أمامها لتثبيت حقوقها بطريقة سليمة قانونيًا. كما أنه يُوجّه رسالة إلى السلطات السويسرية بضرورة احترام الأصول الإجرائية حتى في القضايا ذات البعد السياسي الحساس.
إلى جانب رمزيته، يأتي هذا القرار في سياق أوسع من الجدل داخل سويسرا نفسها حول ما إذا كانت البلاد تستفيد فعليًا من عائدات الفساد الأجنبية، بدل أن تُعيدها إلى شعوب الدول المتضررة. فقد أظهرت تقارير حديثة لمنظمات مثل Public Eye ومعهد بازل للحَوكمة أن عشرات الملايين من الفرنكات المصادرة من قضايا فساد دولية بقيت داخل الخزائن السويسرية دون أن تُعاد إلى أصحابها.
القرار لا يعني أن الأموال أُعيدت إلى تونس بعد، بل إنه يبطل فقط عملية المصادرة السابقة، ما يسمح بإعادة فتح الملف من جديد وفق إجراءات صحيحة. ويُنتظر أن تُباشر السلطات التونسية مفاوضات جديدة مع الجانب السويسري بهدف استرجاع المبالغ أو توجيهها إلى مشاريع ذات طابع تنموي لفائدة الشعب التونسي.
لكن هذا المسار قد يستغرق أشهرًا وربما سنوات، خاصة في ظل تعقيدات القوانين السويسرية التي تُشترط فيها أدلة قطعية على الطابع الإجرامي للأموال قبل أي تحويل فعلي.

