قالت الباحثة الأمريكية سارة إي يركيس، البارزة في برنامج الشرق الأوسط بوقفية كارنيغي للسلام العالمي، إن النموذج التونسي للديمقراطية انتهى.
وأشارت في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” إلى أن الديمقراطية التونسية الوليدة واجهت في العام الماضي امتحانا صعبا بعد انقلاب شخصي نفذه قيس سعيد في 25 جويلية 2021، وبعد ساعات، عزل رئيس الوزراء وعلق البرلمان لمدة 30 يوما وتولى السلطة التنفيذية.
وبرر سعيد حركته بناء على المادة 80 من دستور تونس عام 2014، والتي تعطي الرئيس الذي يحدد أن البلد “يواجه خطرا محدقا” و”اتخاذ الإجراءات التي تستدعيها الظروف الاستثنائية”.
ولكن ما وصف بداية بالإجراء الطارئ المؤقت مدد الآن إلى أجل غير محدود. وشارك التونسيون في 25 جويلية 2022 في استفتاء قنن استيلاء سعيد على السلطة وأصبح قانونا تونسيا.
وبات ما أطلق عليه النموذج التونسي على باب الموت. وتحاول المعارضة ومنظمات العمل المدني بشكل بطولي إحياءه. لكنهم بحاجة إلى مساعدة عاجلة ودائمة من المجتمع الدولي لو أريد لهم النجاح.
وفي الأشهر التي تبعت استيلاءه على السلطة في تموز/ يوليو، دمر سعيد وبشكل منظم ما تبقى من مؤسسات الديمقراطية في البلد، إما بتعليق عملها أو استبدالها بمؤسسات ملأها بالموالين له.
وفيسبتمبر 2021 أصدر سعيد مرسوم 17 أعطى صورة عن نواياه طويلة الأمد، ونقل فيه السلطات من البرلمان إلى الرئاسة، بشكل سمح للرئيس الحكم عبر المراسيم.
وفي نفس الوقت، قام سعيد وفي تناقض مع عمله السابق كأستاذ في القانون الدستوري بتعطيل معظم دستور عام 2014، حيث إنه اعتبر الحكومة في خدمة الرئيس.
وفي محاولات أخرى، قام الرئيس بإسكات معارضيه وعرض مئات من الناشطين والصحفيين والسياسيين في المعارضة للاعتقالات التعسفية ومنع السفر وشن هجمات خطابية لاذعة. وفي ديسمبر 2012 اتهمت حكومة سعيد، الرئيس السابق منصف المرزوقي، أول رئيس لتونس بعد الثورة بتقويض الأمن الوطني وحكمت عليه غيابيا بالسجن لمدة أربع سنوات.
وفي فيفري 2022، حل سعيد مجلس القضاء الأعلى واستبدل به مجلسا مواليا له وأعطى نفسه سلطة عزل القضاة، وهي سلطة مارسها في 1 جوان عندما عزل 57 قاضيا اتهمهم بعرقلة مسار العدالة في قضايا إرهاب والمشاركة في قضايا فساد وارتكاب جرائم أخلاقية مثل الزنا والمشاركة في “حفلات الخمر”. وكانت رصاصة الرحمة في كل ما قام به سعيد هي إعادة كتابة الدستور مكملا ما بدأه من أجل رئاسة قوية بمشرعين محايدين.
واختار سعيد لجنة الدستور لكتابته في أسبوعين. وفي تحول غريب للأحداث، شجب رئيس لجنة كتابة الدستور صدوق بلعيد، علنا النسخة التي نشرها سعيد وطالب التونسيين بالتصويت عليها، قائلا إنها لا تعبر عن النسخة التي عملت عليها اللجنة وقدمتها له، وأن النسخة الأخيرة تعبد الطريق نحو الديكتاتورية.
وفي الوقت الذي تمت فيه المصادقة على الاستفتاء بنسبة 95%، كانت المشاركة بنسبة 30% من التونسيين الذين يحق لهم التصويت تقترح أن الكثيرين من أنصار سعيد فقدوا الثقة به. وترى الكاتبة أن استيلاء سعيد على السلطة في جوان 2021 نجح لأنه حاول استثمار ثلاث أزمات متداخلة: أولها انتشار كوفيد-19 الذي وصلت حالات الإصابة به للذروة، بشكل كشف عن ضعف نظام العناية الصحية في البلد وعدم قدرة الحكومة على تقديم الخدمات التي يحتاجها الناس بشكل عاجل..
أما الأزمة الثانية، فهي الاقتصاد الذي تعرض مثل كل اقتصادات العالم للضرر بسبب الوباء وتفاقم وضعه بزيادة النسب بين العاطلين عن العمل وحطم صناعة السياحة المزدهرة مرة، وجعل الكثير من التونسيين يعانون من الفقر. أما الأزمة الثالثة؛ فهي أن النظام السياسي المتشرذم عانى من الشلل بسبب الاستقطابات.
وهاجم الساسة بعضهم البعض علنا في قاعات البرلمان وهاجم سعيد ورئيس وزرائه الذي اختاره هشام المشيشي بعضهما البعض عبر التلفاز الوطني. ولم يرض سعيد عن تعاون المشيشي مع حركة النهضة أكبر كتلة برلمانية، واختلف معه حول وزارة الداخلية والسيطرة عليها. وفي ظل هذه الظروف فإنه كان من السهل فهم السبب الذي دفع الكثير من التونسيين إلى منح سعيد فضيلة الشك.
وأضافت الكاتبة: “فهم اليائسون والمحبطون من حكومة عاجزة عولوا على الرئيس الذي كان يتبع مسار قادة آخرين في العالم، بدا جاهزا للسيطرة على الفساد والنظام الراكد. إلا أن نوايا سعيد أصبحت واضحة وتدهور وضع الاقتصاد، وقد بدأ الدعم الشعبي له بالاختفاء. وبرر سعيد ما قام بأنه يعمل ما يريده الشعب، إلا أنه فشل طوال العام الماضي باستشارة الشعب”.
فالمشاورة الإلكترونية التي كان يريد من خلالها جمع آراء الناس لمسودة الدستور، شابتها المخاوف الأمنية والمشاكل الفنية. ولم يشارك فيها إلا ما نسبتهم 7% ممن يحق لهم التصويت. ولا يوجد ما يشير إلى أن آراء من شاركوا في المشاورة استخدمت في عملية صياغة الدستور الذي صوت التونسيون عليه الشهر الماضي.
ومن النادر ما خاطب وزراء سعيّد الرأي العام أو سمحوا للصحافة بمساءلتهم. وأدى أسلوبه الديكتاتوري المتزايد إلى سلسلة من الاحتجاجات للذين ضاقوا ذرعا بعدم قدرته على الوفاء بوعوده الاقتصادية أو تحقيق الاستقرار السياسي. وبدا تراجع شعبية سعيد واضحا في نسبة المشاركين في الاستفتاء على الدستور الجديد، والذي يعتبر التصويت الأكثر تأثيرا منذ انتفاضة عام 2011. وجزء من تراجع المشاركة، نابع من مقاطعة المعارضة ومنظمات المجتمع المدني للاستفتاء بدلا من المشاركة في عملية نظروا إليها على أنها غير شرعية.
وليس من الواضح إلى أين سيقود سعيد تونس في المرحلة المقبلة، وما هو واضح هو أن النموذج الديمقراطي الذي نشأ عام 2014 لن يتم إحياؤه. فقد، فقد الرأي العام الثقة بالبرلمان قبل انتخاب سعيد ولا يريد التونسيون العودة إلى الاستقطاب والتشهير. وهناك سؤال آخر، يتعلق بعودة المجتمع الدولي للتعامل مع سعيد كالمعتاد، وبعد تمرير الدستور.
ففي أعقاب سيطرة سعيد على السلطة، اقترحت إدارة بايدن قطع المعونات لتونس إلى النصف تعبيرا عن عدم رضاها من تحركاته. ومع أن الردود الغربية على استفتاء سعيد لم تكن دافئة، إلا أنه حتى يقوم سعيد باتخاذ الخطوات اللازمة لإعادة الحريات الديمقراطية التي قاتل الشعب من أجلها وبقوة، فإنه من غير المحتمل قيام العالم الديمقراطي باتخاذ الخطوات التي تلغي التراجعات التي قام بها سعيد العام الماضي.
وطوال العقد الماضي، ظل الغرب يتحدث عن تونس كعماد الديمقراطية في العالم العربي، لكن لم يتم تقديم الدعم المالي والسياسي الذي يستحقه الشباب كما في بقية الديمقراطيات. وتم تجاهل مشاكل الاقتصاد التونسي والاستقطاب السياسي نتيجة للأزمات المتعددة في الشرق الأوسط. وربما لم تكن خطة مارشال تونسية كافية لإنقاذ عملية الانتقال الديمقراطي، فلربما كان الدعم المالي الكبير كافيا للمساعدة على تجاوز الآلام الجانبية للإصلاحات الاقتصادية الكافية لتحقيق نمو اقتصادي على المدى البعيد.
ويحتاج المجتمع المدني والمعارضة السياسية الدعم المالي والخطابي من أجل جر تونس مرة أخرى إلى الطريق الديمقراطي. واقتطع سعيد الكثير من الصفحات في دليل إرشاد الديكتاتوريين للحد من التقدم الديمقراطي الذي تحقق على مدى عقد، وفي عام واحد. وربما وطد من سلطته، إلا أن عليه عدم نسيان قدرة الشعب التونسي على التخلص من طاغية لو اتحدوا، وهذا هو الدرس الواجب عليه ألا ينساه.