تعيش تونس منذ العام 2011 بما يتجاوز إمكانياتها. لقد تدفّقت القروض والمساعدات الخارجية إلى البلاد بعد الانتفاضة الشعبية في فترة 2010-2011 لدعم عملية التحوّل الديمقراطي، بيد أن هذا التمويل أدّى إلى طفرة استهلاكية غير مستدامة. وما يزيد الأمور سوءًا أن القدرة الإنتاجية للبلاد بدأت تتراجع بفعل غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فازدادت إمكانية حدوث انهيار مالي خطير. لذا، لا بدّ من إجراء إصلاحات ضرورية لإبعاد شبح الأزمة حسب ما يؤكده في تقرير أعده ثلاثة خبراء في المجال الاقتصادي وهم حمزة المدب واسحاق ديوان وهاشمي علية *
يتفق هؤلاء في تقريرهم الذي أعدوه لمؤسسة مالكوم كير كارينغي للشرق الأوسط أن تونس ستواجه صعوبة أكبر في خفض إجمالي ديونها خلال الأشهر المقبلة، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى الارتفاع في تكاليف خدمة دينها الخارجي. ففي العام 2023، بلغت تكاليف خدمة الدين حوالى مليارَي دولار، ويُتوقَّع أن تصل إلى نحو 4 مليارات دولار في العام 2024، ما سيضاعف حجم التحديات المُلقاة على كاهل تونس. وتشمل هذه التكاليف تسديد استحقاقات أصل الدين بالعملات الأجنبية (أي اليوروبوند)، وهي سندات مُتداولة في الأسواق المالية بقيمة 850 مليون يورو (930 مليون دولار). وفيما تحاول تونس النهوض بهذه التحديات، يتعيّن على صنّاع القرار التفكير بثلاثة سيناريوهات مُحتملة.
يتمثّل السيناريو الأول في إحجام تونس عن إجراء الإصلاحات وعن تطبيق برنامجٍ بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وستبقى بموجب هذا السيناريو العجوزات الداخلية والخارجية في تونس كبيرة نسبيًا، وستضطر البلاد إلى تغطية عجز الميزانية عن طريق القروض المحلية، وتأجيل سداد المتأخرات المستحقة، وطباعة الأوراق النقدية. وفي ظل تضاؤل فرص الحصول على تمويل خارجي، ستضطر السلطات إلى إجراء تعديلات اقتصادية مؤلمة. وحتى مع خفض فاتورة الاستيراد، سيبقى العجز في ميزان المدفوعات كبيرًا – بين 3 إلى 4 مليارات دولار بحسب تقديرات المؤلّفين – وسيُستخدَم الاحتياطي العام بشكلٍ أساسي من أجل تمويله. وقد بدأت السوق المحلية تشكو من نقص بعض السلع والمواد الأساسية، بالتزامن مع التراجع الشديد في الطلب المحلي. لكن ما لم يتم الاتفاق على برنامجٍ مع صندوق النقد من شأنه تلبية الحاجات المالية لكلٍّ من الحكومة والشركات المملوكة للدولة، ستزداد حدّة المعضلات التي تتخبّط فيها البلاد. فمن دون رؤية واضحة لبناء مستقبل أفضل، قد يتسبّب الاعتماد حصرًا على التدابير التقشفية للمماطلة وكسب الوقت (من خلال زيدة الضرائب وخفض الإنفاق العام) بإشعال فتيل أزمة اجتماعية. لكن التقاعس سيؤدّي لا محال إلى تراجع شديد في قيمة العملة المحلية، ما سيفاقم بدوره المعاناة الاجتماعية، على وقع ارتفاع مستويات التفاوت الاجتماعي والفقر، وتسارع وتيرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. وقد تميل السلطات إلى التخلّف عن سداد جزءٍ من الديون الخارجية المستحقّة على تونس. وبين أواخر العام 2024 وخلال العام 2025، ستزداد مخاطر الانخفاض القسري في قيمة العملة، ما سيسفر عن تداعيات مالية متتالية، مثل تدهور قيمة الأصول المالية، والحاجة إلى زيادة أسعار الفائدة للتعويض عن المخاطر، وهروب الرساميل. نتيجةً لذلك، ستنزلق البلاد إلى دوّامةٍ من الركود الاقتصادي الأعمق، وسيزداد التهديد بزعزعة الاستقرار الاجتماعي.
ويستند السيناريو الثاني إلى الاتفاق على برنامجٍ مع صندوق النقد الدولي، وإجراء بعض الإصلاحات. قد تمارس التشنّجات الداخلية في أوساط النخب السياسية والأمنية التونسية ضغوطًا متنامية على الرئيس لدفعه إلى القبول ببرنامج صندوق النقد، سعيًا إلى لجم السخط الشعبي المتصاعد. وسيترافق هذا البرنامج على الأرجح مع تمويل إضافي توفّره دولٌ أخرى، ما من شأنه تخفيف الضغوط على الحسابات الخارجية لتونس. لكي يحظى البرنامج بقبول السلطات، يجب أن يتجنّب فرض تدابير تقشّفية قاسية، ويمكن إطلاقه في الواقع قبل موعد انتخابات العام 2024. وفيما من المستبعَد أن ينجح هذا البرنامج في قلب الاقتصاد التونسي رأسًا على عقب، يُحتمَل أن يستمر بخطى متعثّرة، على غرار برامج مشابهة طُبِّقت في مصر وباكستان، وأن يجذب إلى البلاد تدفّقات مالية خارجية متواضعة. وستكون هذه الإصلاحات المحدودة مصمَّمة بشكل أساسي لضمان الملاءة المالية للبلاد وقدرتها على الحصول على التمويل الثنائي والمتعدّد الأطراف. إذًا، من غير المرجَّح أن تُحدِث هذه الإصلاحات تحوّلًا جوهريًا في الاقتصاد التونسي.
أما السيناريو الثالث فينطوي على إطلاق تونس عملية إصلاحية يُعتدّ بها تنجح في دفع عجلة النمو الاقتصادي. وهذا من شأنه أن يعالج مشكلة الدين التي تثقل كاهل البلاد. فتطبيق برنامجٍ إصلاحي وطني قد يخفّف عبء التعديلات الاقتصادية، مثلًا من خلال جذب تمويل جديد، ربما من المصارف الإنمائية المتعدّدة الأطراف. ويجب دعم هذا البرنامج من خلال اللجوء إلى إعادة هيكلة استباقية للدين الخاص والدين الثنائي. من شأن برنامج الإصلاحات الداعمة للنمو المطبَّق طوعيًا أن يشمل إجراءَ تعديلات على مستوى الاقتصاد الكلّي، وتحرير السوق، والمنافسة العادلة، وإصلاح القطاع العمومي. وسيستفيد هذا البرنامج من الفرص الجديدة المتاحة في أوروبا لإعادة توطين الأعمال في مناطق مجاورة (nearshoring)، ولتعزيز التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة.
مسارات سياسية واقتصادية لتحقيق التعافي: الصورة الأوسع
تتأرجح تونس على حافة الانهيار منذ سنوات عدّة، بيد أن اقتصادها أبدى قدرًا كبيرًا من المرونة. وقد جادل الكثير من المراقبين بأن أسباب المصاعب التي تواجهها البلاد سياسية في الغالب، وأن التقدّم يتطلّب في المقام الأول إجراء إصلاحات سياسية. يُشار إلى أن انتفاضة العام 2011 أدّت في نهاية المطاف إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد. فنظام بن علي، على الرغم من مساوئه الكثيرة، استطاع الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلّي والإمساك بالنظام العام وفرض سلطته. لكن بعد العام 2011، أتى التقدّم السياسي المُحرَز على حساب الاقتصاد، إذ أعطى النظام السياسي الفوضوي والتنافسي الذي نشأ الأولويةَ لتحقيق التحوّل الديمقراطي وكان عليه تلبية مطالب رفع الأجور، وزيادة التوظيف في القطاع العمومي، وتحسين الظروف المعيشية. نتيجةً لذلك، فشلت الحكومات الثلاث عشرة التي تشكّلت بعد الانتفاضة في تحقيق توازن المالية العامة، ما أسفر عن عجوزات مالية كبيرة طوال هذه الفترة، وإلى ارتفاع الدين العام. وأدّى السخط الاجتماعي إلى تفاقم الشعبوية، وعجز النظام القائم عن تطبيق الإصلاحات غير الشعبية التي ستسمح لتونس بتحقيق إمكانياتها الاقتصادية بالكامل.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن انتفاضة العام 2011 وُلدت من رحم التظلّمات الاقتصادية، إذ لم ينجح نظام بن علي في استحداث آلاف فرص العمل الجيّدة التي يحتاج إليها الاقتصاد سنويًا لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المواطنين المتعلّمين. ونظرًا إلى أن النظام كان مدفوعًا بالسعي إلى تعزيز صموده واستمراره، فهو لم يعمَد إلى إصلاح الشركات المملوكة للدولة التي تكبّدت خسائر مالية كبيرة أو نظام الدعم الذي شكّل عبئًا متزايدًا. أما النظام التنافسي الذي أعقبه فقد ورِث هذه المشاكل الهيكلية، لكنه اضطرّ إلى التركيز على التحديات القصيرة المدى، وبالتالي عجز عن تحديث الاقتصاد من خلال تنفيذ الإصلاحات اللازمة. ويرزح نظام سعيّد الشعبوي راهنًا بدوره تحت وطأة ضغوطٍ مماثلة قصيرة المدى.
خلال السنوات المقبلة، ستُفرز التطوّرات الاقتصادية تداعيات سياسية مهمة، وإن لا تزال غير واضحة بعد. لذا تكتسي الانتخابات الرئاسية المُرتقب إجراؤها في أواخر العام 2024 أهمية كبرى. وستكون حظوظ سعيّد رهنًا بمدى تدهور المشهدَين الاجتماعي والاقتصادي خلال المرحلة التي تسبق هذه الانتخابات. فإذا انهارت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بوتيرة متسارعة قبل جوان 2024، ستتعزّز حظوظ خصوم سعيّد في الفوز. أمّا في المقابل، إذا أبدى الاقتصاد قدرةً على الصمود والتكيّف، فسترتفع احتمالات إعادة انتخاب سعيّد لولاية جديدة.
ستستمرّ التحديّات التي تواجهها تونس من أجل تحسين ظروفها الاقتصادية في التأثير على مسار الأحداث السياسية في المدى المتوسط. وهذه الظروف مرتبطة في حدّ ذاتها بالتحدّي السياسي البارز المتمثّل في الخروج من “فخ الدخل المتوسط”، أي العجز عن إدارة عملية التحوّل الاقتصادي وعدم تجاوز فئة الدول المتوسّطة الدخل. ولا يقتصر إحراز التقدّم على تحقيق نمو اقتصادي سريع واللحاق بركب الدول الأغنى وبناء المؤسسات، بل يتطلّب عملًا جماعيًا يهدف إلى تحسين جودة التعليم، وتعزيز إنتاجية العمل، ورفع مستوى الابتكار والأبحاث والتنمية، وبشكل عام الارتقاء في سلاسل القيمة العالمية. لكنّ تطبيق هذه الإصلاحات صعبٌ على المستوى السياسي، ويستلزم توافر درجة عالية من الثقة بين جميع مكوّنات الوطن الواحد، إلى جانب التنسيق السياسي الفعّال والقيادة السليمة.
إن الفرصة سانحة أمام تونس اليوم لإحراز تقدّم مهمّ من أجل تحسين آفاق النمو في البلاد من خلال الاستفادة من المنافع التي يمكن أن يحقّقها الشروع في عملية إصلاحٍ اقتصادي. في غضون ذلك، يحاول الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي إعادة توطين عمليات إنتاج سلاسل القيمة العالمية ذات الأهمية الاستراتيجية في مناطق مجاورة، وتتمتّع تونس بموقع يخوّلها الاستفادة من هذه الظاهرة. ونظرًا إلى أن التركيز على تطبيق الإصلاحات الاقتصادية قد يسهم بشكلٍ أكبر في تعزيز الازدهار الاقتصادي، أصبح الرهان على الإصلاحات الداعمة للنمو مُغريًا أكثر من ذي قبل. لكن، كي تتمكن تونس من جني هذه المكاسب، لا بدّ من تشكيل ائتلافٍ من أجل التغيير تقوده قوى سياسية ملتزمة بنجاح هذه العملية.”
**
حمزة المؤدّب
حمزة المؤدّب هو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، وانعدام الأمن على الحدود في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
هاشمي علية
هاشمي علية هو خبير اقتصادي والمدير المؤسِّس لمركز TEMA الاقتصادي التونسي، ومحرّر نشرة ECOWEEK التي تُعنى بالاقتصاد الكلّي.
إسحاق ديوان
إسحاق ديوان هو مدير الأبحاث في مختبر التمويل من أجل التنمية في كليّة باريس للاقتصاد.