في رسالة مطولة توجه بها الوزير السابق سالم لبيض لرفيق دربه زهير المغزاوي يدعوه فيها الى “زهير المغزاوي، بعد حديثه في إذاعة جوهرة في حاجة” إلى الخروج نهائيا من تحت عباءة سلطة 25 جويلية، فلم يعد له مكانة بين جنباتها، فهي ملك خاص من أملاك الرئيس سعيّد لا شريك له فيه من أحد. ”
رسالة إلى الأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي:
في لزوم ما يلزم من قبول بالإكراهات وجديّة الترشحات وتوسيع دائرة الأمل للفوز في الرئاسيات
منذ يوم 26 جويلية 2021 إلى يوم الناس هذا، لم تتوقف كتاباتي وتصريحاتي الإعلامية، ولم تهدأ النقاشات والحوارات التي لا تنتهي، صاخبة كانت أو هادئة، وإن انتهت فإلى اختلافات وتباينات سياسية عميقة، وضعتني خارج الخط السياسي للحركة وعلى مسافة أمتار من مغادرتها أثناء مؤتمرها لسنة 2022 لو لا كلمات سبقت وعهود تُعّهدت. لقد صاحبت تلك الاختلافات والتباينات توترات بيني وبين الأخ زهير المغزاوي الأمين العام لحركة الشعب وأغلب القيادات في الحركة، وإن لم تُفسد للودّ قضية، من أمثال عبد السلام بوعائشة وهيكل المكي وآخرين، إلا فيما ندر، حول الموقف من 25 جويلية وقلب نظام الحكم ليصبح نظاما رئاسويا مطلقا لا يخضع فيه الرئيس إلى أي جهة رقابية، بعد أن كان ذلك النظام شبه برلماني تستمدّ فيه الحكومة شرعيتها من البرلمان وتخضع لرقابته، وما صاحبه من تهميش للأحزاب والقتل الرحيم وغير الرحيم لدورها السياسي والاجتماعي، وإبعادها عن وظيفتها التي انبعثت من أجلها أي تولي السلطة أو ممارسة المعارضة.
كنت ولا زلت أختلف مع الرئيس قيّس سعيّد فيما أتاه من أفكار سياسية، رأيت فيها غرابة وطوباوية بالغة، فهي لا تصلح نواميس للمجتمع ولا يمكن ترجمتها مؤسسات دولة تؤمّن حياة ملايين البشر. نقدتها بموضوعية وعلوّ أخلاقي دون مسّ من شخصية الرئيس ومن هيبته ففي هيبته رمزية الدولة وهيبتها، ودون ذمّ أو تأثيم أو تجريح لشخصه ومن والاه وناصره، فالذم والتأثيم وهتك الاعراض تركته لغيري ممن يحترفه ولا يتقن سواه، وذلك في إطار حق الاختلاف المكفول بالشرائع الدينية والانسانية واخلاقيات السياسة ووازع الانتماء إلى الفصيلة البشرية والحضارة العربية الإسلامية والحركة الإصلاحية السياسية والمدنية التونسية.
أثبت الواقع وبيّنت الوقائع صحّة قراءتي وصدق تحليلي، وتهافت بقية القراءات والرؤى والمواقف بما في ذلك الموقف الرسمي لحركة الشعب المنشور في بيانتها وتصريحات قياداتها، الدليل القاطع لدي هو تقديم الحركة مرشّحا لها لمنافسة سعيّد وليكون بديلا عنه وعن مشروعه، لفشل هذا المشروع وعدم جدوى البقاء في منظومته أو حتى مساندتها نقديا، وفي ذلك إقرار بعدم الانتماء إلى تلك المنظومة أو ذلك المشروع، وإلا فماهي مبررات هذا الترشّح.
لم يتغيّر موقفي من أن مجد حركة الشعب وصعودها السياسي اللافت والسريع وممارسة السلطة من البوابة التشريعية (ثلاثة نواب سنة 2014 و15 نائبا في برلمان 2019) والتنفيذية (وزيران في حكومة الفخفاخ)، واعتراف الدولة بالتيار القومي العربي والتقدمي في تونس، ممثلا في تلك الحركة، بعد أكثر من نصف قرن من الإقصاء والتهميش والصراع السياسي السلمي وغير السلمي، وتصالحها معه وبناء كيان سياسي لذلك التيار، لم يكن ممكنا بناؤه، خارج الحقبة الديمقراطية أو العشرية الموصومة بالسواد 2011-2021، (الفترة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ تونس القديم والحديث والمعاصر). ولم تُحجب الحقيقة عني، رغم حجم التأثيم والتشكيك والتشويه، من أن أفضال تلك العشرية، المصحوبة بكثير من الهنات فهي لا تخرج عن كونها عشرية أخرى من الفعل البشري الذي قد يصيب وقد يخطئ، تعود على كل مكونات الطبقة السياسية تنظيمات كانت أو أفرادا، بمن في ذلك الرئيس قيّس سعيّد نفسه، فهو من أكبر المستفيدين من تلك العشرية، فقد كان قبلها نسيا منسيا، بعد كل من النهضويين (حكم الترويكا) والدستوريين (حكم نداء تونس) واليسار (تجربة الجبهة الشعبية البرلمانية ورئاسة لجنة المالية خمس سنوات)، وقد يعود الأمر إلى سعة شعبية الفريق الأول 2011-2014 واكتساب الفريق الثاني خبرة عميقة بالحكم 1956-2011 و2014- 2019، والقدرة الاحتجاجية للفريق الثالث، وإن وضع أي اسم سياسي أو شخصية عامة في محرّكات بحث شبكة الانترنت ستخبر تلك الشبكة عن موقعه في تلك العشرية وكيفية استفادته منها، وسينفضح أمر كافة اللذين سارعوا إلى عذرية جديدة وركوب القطار السعيدي الذي لم يعرهم صاحبه أي اهتمام ولم يلتفت إليهم حتى بتحية السلام.
لقد كان للسنوات الثلاث الأخيرة الثقل الكبير والوزر الثقيل على حركة الشعب بسبب تأييدها الأعمى أحيانا والبصير أحيانا أخرى سلطة 25 جويلية ونصوصها المفتقدة للتماسك الداخلي ومشروعها الطوباوي والهلامي والسلطوي الذي انتهى أخيرا نظاما استبداديا سالبا للحريات وقامعا لها. عملت قدر الإمكان، والأمر موثّق كتابة وغير كتابة، على فكّ الارتباط، ضمن قراءة نقدية واستدلال تاريخي ووعي عميق باستقلالية الموقف ورفض لعب دور التُبع وتولي وظيفة تفسير نصوص وسياسات لا يفقه كنهها ومعناها سوى صاحبها، وعدم المشاركة في شرعنة دستور تسلطي عتيق غير مزامن لعصره لا تحديث فيه ولا تقدم ولا حداثة انتفت فيه الروح الديمقراطية والتشاركية والتعدد والتداول السلمي على ممارسة السلطة، وانتخابات ومؤسسات صورية منبثقة عنه ومراسيم ونصوص قمعية مستندة إليه (المرسوم 54) وسياسات فردية عديمة الجدوى الاقتصادية والمالية والاجتماعية والدبلوماسية مرتبطة به، ولازلت على استعداد للتفكير بصوت مرتفع والانخراط في مناقشات هادئة تقوم على المحاجّة والحجّة والدليل حول هذه القضايا وكل ما انتهى إليه مشروع 25 جويلية من نصوص وسياسات والتزامات دولية مع رموز ذلك المشروع وقادته الفكريين ممن لهم اسهامات فكرية حقيقية، إن وجدوا، فهذا المشروع هو في نهاية الامر تجربة بشرية كغيرها من التجارب لا تتمتّع بأي قدسية ولا تمثّل تابوهات يُمنع نقدها وتغييرها.
استعمت يوم 14 أوت الجاري الى زهير المغزاوي على إذاعة جوهرة، وشاهدت الفيديو المنشور على صفحته مساء يوم 18 من نفس الشهر، وقد فرض عليه ترشحه للانتخابات الرئاسية أن يسفه القول بأنه مجرّد “كمبارس”، وجدته يئنّ من أوجاع رهن الذات السياسية لمنظومة ثبت فشلها، دون المشاركة الفعلية في وضع سياساتها وأجهزتها التنفيذية وانتقاء طاقمها البشري، ما يحمّله وزرا لا يتحمّله في الحقيقة إلا الرئيس سعيّد وفريق حكمه.
أظن أن العصفور، وبعد ثلاثة سنوات من الأسر، يريد أن يطير رغم أوجاع القلب والجناحين، ويرغب في التحليق عاليا إن توفّرت الإرادة والصدق وعدم الالتفاف على لعبة الانتخابات وتحويلها برمّتها إلى لعبة صورية جوهرها الأوهام والتوهمات. الآن وبعد أن تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وكان الترشح للانتخابات الرئاسية هو السبب المباشر في محاكمة فريق من المترشّحين وسجن فريق آخر وابعاد فريق ثالث، وبعد أن أقصت المحكمة الإدارية من يمثّل التيارات الكبرى (الدستوريون والاسلاميون واليساريون)، وبعد الشروع في هرسلة العياشي الزمال ونشر قضايا انتخابية ضدّه على علاقة بالتزكيات، رغم اقرار هيئة الانتخابات بسلامة ملفّه، وفق بيان أصدره يوم 18 من هذا الشهر، ما قد يؤدي إلى سجنه وإسقاط ترشّحه، وبعد تصريح الأمين العام لحركة الشعب بمواصلة المشاركة في اللعبة الانتخابية الرئاسية إلى آخر مداها رغم الحيثيات المذكورة التي شملت كافة المترشحين، مع استثناء مرشّحين إثنين فقط من أي خطيئة انتخابية أو سياسية، هما الرئيس سعيّد والأمين العام لحركة الشعب، بعد كلّ ذلك، يبدو ان الله قد منّ على المغزاوي بفرصة جديدة للتطهر من مواقف كثيرة علقت به وبحزبه منها الفردي ومنها الجماعي، ولإثبات ديمقراطيته وديمقراطية حركة الشعب على أرض الواقع، وتمثيله كافة التيارات التونسية ودفاعه عن حقها السياسي رغم اقصائها الانتخابي، بمبدئية دون طمع أو خوف أو وجل، وهذه هي الروح الديمقراطية أي ان تدافع على حق المختلف السياسي قبل دفاعك عن الشبيه والجنيس في المواقف والآراء.
كما بات المغزاوي مطالب بالذهاب بعيدا وتقديم وعود صادقة وإجراء تفاهمات ملزمة، وفق مقتضيات الأعراف الانتخابية والضرورات السياسية، مثلما يحدث في الديمقراطيات العريقة والمستحدثة، بإطلاق سراح كافة المساجين السياسيين من كل الانتماءات السياسية دون استثناء (لا أتحدّث عن مساجين الحق العام)، وكذلك مساجين الفكر والرأي والكتابة والاعلام وكل ضحايا مواقع التواصل الاجتماعي والتدوين والمرسوم 54، وتعليق العمل بالدستور الحالي، فهو نص عتيق رغم حداثة كتابته، والعمل على وضع دستور جديد يتضمن أفضل ما جاء في دستوري 1959 (الحركة والدولة الوطنية) و2014 (الثورة التونسية)، وحلّ مجلس النواب عديم التمثيلية الشعبية، لا تتجاوز شرعيته 10 بالمائة من أصوات الجسم الانتخابي التونسي، وتنظيم انتخابات ديمقراطية شفافة تشارك فيها الأحزاب السياسية والقوى المدنية والشخصيات الوطنية، لإفراز برلمان يليق بالإرث السياسي والفكري والمدني وبما خرّجته المدارس والجامعات التونسية من نخب في كافة المجالات، بعد إلغاء القوانين الانتخابية التعسفية واللاشعبية، وانهاء العمل بإفرازات النظام القاعدي القائم على القبيلة والعلاقات القرابية والدموية من مجلس وطني للجهات ومجالس محلية وجهوية وإقليمية، وتنظيم انتخابات بلدية في أقرب الآجال فهل من الطبيعي أن يبقى البلد الذي عرف العمل البلدي قبل قرن ونصف القرن بدون مجالس بلدية؟، والبحث عن صيغة مثلى تُظهر من خلالها الهيئة المستقلة للانتخابات استقلاليتها ويتم انتخاب المجلس الأعلى للقضاء ممثلا لسلطة قضائية حقيقية، بمشاركة كافة مكونات العدالة التونسية، وليس مجرّد وظيفة تتبع السلطة الرئاسية، وتفكيك ما يسمى بالشركات الأهلية فهي أداة هدر المال العام وبيع الأوهام، والعودة الى الاقتصاد الاجتماعي التضامني رافدا للقطاعين العام والخاص وإحياء القانون عدد 38 لمن طالت بطالتهم والحفاظ على دورية تطبيقه، وجعل الدولة مستثمرا رئيسيا للنهوض بالاقتصاد وتشجيع الاستثمار وحماية الدينار والحدّ من البطالة.
أظن أن زهير المغزاوي، بعد حديثه في إذاعة جوهرة في حاجة إلى الخروج نهائيا من تحت عباءة سلطة 25 جويلية، فلم يعد له مكانة بين جنباتها، فهي ملك خاص من أملاك الرئيس سعيّد لا شريك له فيه من أحد. وهو في حاجة إلى الاعتراف أيضا بأن 25 جويلية في حقيقته يمثّل اجهاضا لحراك شعبي وديناميكية النخب الوطنية الفكرية والسياسية والمدنية، الهدف منهما تجديد الثورة التونسية ومداواة أسقامها وإصلاح أخطائها ضمن المسار الديمقراطي دون العودة إلى الزمن الاستبدادي ولياليه المظلمة. وعلى المغزاوي أن يدرّب نفسه على التخلّص من أسر الأيديولوجيا والفئوية الحزبية لصالح الانتماء الوطني الرحب الواسع القوى والانتماءات، دون ارتداد أو تأثّر بوصم الأخونة والدسترة، والنعوت الطفيلية، وما يطلقه ذوي القربى من تهم وافتراء، فظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على حدّ قول الشاعر، ودون استسلام لأنصار المعلّبات الأيديولوجية الميتة المنتهية الصلاحية، فالأيديولوجيات كانت دائما أكبر قدرا وأعلى شأنا من أصحابها. وعليه أن يتذكّر دائما أن إخوة يوسف قد ألقوا بأخيهم في غيابات الجبّ منتظرين مجيئ بعض السيارة لبيعه بأبخس الأثمان، أو بدون ثمن كما يحدث اليوم، وأن يذكّر نفسك بالقول القرآني العظيم “لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم”، واتباع ملتهم هذه المرّة يجعله من عديمي المعرفة بقوانين التاريخ وقيام العمران ونشأة الاجتماع الإنساني وتحولات الأمم ورهانات الحكم وأسباب النجاح ويقلّص من حظّه الانتخابي فيخيب أمله وأمل تيار عروبي وطني تعددي ديمقراطي لا يقصي أحدا، يراهن على حكم تونس للمرّة الأولى في تاريخه من البوابة الانتخابية. ليكن المغزاوي هذه المرّة برغماتيا حذرا، تراقب مبادئه برغماتيته، متجاوزا الفئوية وقصر نظر الأقربين، ساعيا إلى إعادة بناء الثقة مع مكونات الطبقة السياسية التونسية والقوى المدنية والاجتماعية والعمل على اختراق القاعدة الشعبية لتحقيق “حلمته” الانتخابية بعد أن تكون هذه “الحلمة” قد تحوّلت إلى حلم جماعي لأغلب الطبقات الشعبية والنخب التونسية، تيمنا بتجربة قيّس سعيد سنة 2019، فما كان للرجل ان يفوز بدون أصوات التيارات الإسلامية والقومية والدستورية واليسارية وكافة القوى الشعبية.
وعلى هذه الأرضية من الاختلاف والتنوع والاعتراف بالآخر، يمكن خوض الانتخابات الرئاسية، فمعسكر حركة الشعب ومرشّحها أمينها العام لم يعد معسكر الرئيس سعيّد وإنما منافسه الأشدّ، مع الانتباه الشديد إلى خطّة الاستدراج لدور الديكور والاستعداد في كلّ وقت لإحباطها، وبعد ذلك، وإذا توفرت المصداقية والنزاهة وتكافؤ الفرص، فليتنافس المتنافسون، فإن كان الحظّ حليف المغزاوي هنيئا له، وإن منح الشعب قيّس سعيّد ولاية رئاسية جديدة فهنيئا له أيضا، وذلك هو الأدنى الديمقراطي الواجب احترامه من الجميع.