يقول كولين باورز* الباحث في جامعة جونز هوبكنز للدراسات الدولية في دراسة معمقة حول شخصية الرئيس قيس سعيد يقول ” على النقيض من عديد الأنظمة الأستبدادية الأخرى ، ُيظهر نظام قيس سعيد اهتماما يسيرا ببناء
الشرعية من خلال الأداء الاقتصادي حيث يراوح نهج الرئيس في الحوكمة الاقتصادّية بين اللامبالاة وعدم التماسك.
وكان من نتائج ذلك تعميق للمشاكل الهيكلية الموجودة مسبًقا، مع ظهور مشاكل جديدة وحادة مثل تراجع مخزون
العملة الصعبة ونقص المواد األساسية في الأسواق .
يزعم باورز في دارسته ” أن سعيد اعتمد في تركيز سلطته بشكل كبير على القمع وإغلاق الفضاءات المؤسسية
المستقلة،وتوظيف النصوص القانونّية على المقاس. وبذلك فإن الرئيس ُيهمل الأدوات السياسية التي عادة ما
يستخدمها الشعبويون اليمينيون داخل السلطة: وهي التنظيم الجماهيري وتقييد النخبة وسياسة دولة
الرعاية الموجهة وإرساء تحالف النمو.
عند وضع سعيد ضمن سياق مقارن، فإنه يمكن تشبيه نظامه إلى حد كبير بالأنظمة الشعبوية المتقلبة
المعاصرة مثل نظام “جاير بولسونارو” في البرازيل أكثر من تشبيهه بالنماذج الأوتوقراطية التي مارست الحكم
لفترة طويلة على غرار فيكتور أوربان في المجر أو رجب أردوغان في تركيا.
ُيشير تقييم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تونس اليوم الى أن قبضة الرئيس على السلطة
لم تعد قوية كما يبدو للوهلة االأولى غير أن ذلكل لا يعني أن آفاق الديمقراطية آخذة في الارتفاع في المقابل.
الاستياء الشعبي من الأحزاب السياسية التونسية ومن الشخصيات التي قادت التحول السياسي في البالد ما
بعد 2011 لا يزال كبيرا.
بعد هذا التقييم السريع لمشروع قيس سعيد، يظهر أن نموذجه مختلف تمام الإ ختلاف عن التجارب الشعبوية
ذات الإنجازات العالية في القرن الحادي والعشرين. فمن حيث التحشيد الجماهيري، يبدو الحراك المساند للرئيس
ضعيفا جدا. إذ ُيلاحظ أن هناك علاقة له بشكل أو بآخر، بمن مارسوا معاملة وحشية ضد الأفارقة من جنوب
الصحراء في صفاقس وأماكن أخرى. كما يوجد اتصال مباشر ودوري مع أعضاء التنسيقيات التي تنامى عددها
منذ عام 2020 .
ولكن لا يمكن اعتبار هذه المبادرات وصفها بالصبغة التحشيدية في التنظيم الجماهيري.
كما أن هذا التنظيم نفسه يفتقر إلى الترشيد والروتينية، وبذلك يمكن أن نستنتج أن جهود سعيد المبذولة على
هذه الجبهة أقل أهمية من تلك التي يبذلها أردوغان أو آخرون.
كما أن التزامات سعيد وقدرته على تشكيل تحالف النمو قد فشلت في بلوغ أدنى المراحل التي وصلت إليها
الشعبوية اليمينية في العالم. فتخفيض معدلات الضريبة العادية عىل الشركات إلى %15 في سنة 2022 قد يبدو
بمثابة محاولة لإغراء طبقات رجال الأعمال، ولكن في السياق الذي تعاني فيه الدولة من التهرب الضريبي، قد يصبح
هذا الاجراء رمزيا أكثر منه حقيقيا. فهذا التدبير يفتقر آلية التمييز، التي شكلت المفتاح الرئيسي لدى أوربان
وأردوغان لتجنيد حلفاء ضمن رجال الأعمال. إذ من المؤكد اليوم أن جزًءا صغيًرا فقط من رأس المال المحلي قد
حقق أداًء جيًدا خلال فترة حكم سعيد المضطربة.
أما القطاع المصرفي فقد سجل أرباحًا شبه قياسية خلال
2022 و 2023 ولكنها كانت لكبار المساهمين الذين جنوا أرباحهم عىل حساب آلام التونسيين.
وحسب كولين باورز” لا ينبغي التقليل من إمكانية تحرك القوى الشعبية لإسقاط قيس سعيد، بالرغم من أن احتمال
حدوث ذلك قديتضاءل بسبب التسييس المتزايد للجيش.”
في حال إزاحة سعيد من قصر قرطاج، سُتصبح عملّية إعادة النظام الديمقراطي للبلاد عسيرة للغاية بسبب
نقص الثقة لدى المواطنين في المؤسسات التمثيلّية.
بالنسبة لمن يزال يبحث عن دعم للديمقراطية في تونس، سواء داخل البلاد أو في الخارج، فمن الضروري ألا
يقتصر التركيز عىل معارضة قيس سعيد فقط. بل ينبغي التفكير بنفس الدرجة في الجهود الممكنة لتغيير
الظروف الاجتماعية والاقتصادية، التي ستحّدد بدورها ما هو ممكن سياسّيا.
إن الممارسة السياسية لقيس سعيد تتحّدى كافة الأشكال المألوفة، إذ يختلف هذا النمط من الاستبداد عن
نظرائه في الخليج ومناطق أخرى من شرق آسيا. فمشروع سعيد لا يهتم كثيًرا بالشرعية المبنية على الأداء، حيث
لا يوجد دليل أكثر وضوًحا مما هو عليه الحال من المبالاة لساكن قرطاج في مواجهة الأزمات الاجتماعية
والتنموية المتداخلة التي ترزح تحتها البلاد من قبيل ارتفاع معدلات الانتحار وتعاطي المخدرات ومحاولات عبور
البحر وتفشي الأمراض العقلية لدى الفئات الشبابّية،
إذ دائما ما يمّر على هذه المسائل في خطاباته مرور الكرام.
أما مشاهد الرفوف الفارغة داخل المغازت وأزمة تجميد الأجور والتراجع الاقتصادي فلا تجد لها تفسيرا في
خطاباته سوى عبر تلميحات غامضة تليح باللائمة على الاحتكار وخيانة اللوبيات الاقتصادية.
تشهد البلاد تطبيقا صارما لسياسة التقشف، حيث يتم تحويل ماليين الدينارات إلى صفوة أثرياء البلاد عبر
سياسة الاقتراض العمومي وسياسات دولة الرعاية الاقتصادّية التي تستفيد منها فئة محّددة من السكان عبر
قانون جبائّي لم تتّم مراجعته منذ أمد طويل، على الرغم من أن الدولة تواصل زعمها الدفاع عن العدالة
الاجتماعية. و منذ سنتي ،2023-2022 عندما بدأ الاقتراب من حافة الهاوية يشتّد بشكل كبير، ارتأى الرئيس الذي
يمارس سلطة الحكم عبر المراسيم شّل الدولة،
وتنازل عن مهام القيادة لطاقم من التكنوقراط غير الملهمين،
غير أنه لم يتوان مع ذلك في تقويض أية خطة يقترحونها. وإذا كان الكثير من المستبدين يعرضون على
مواطنيهم مقايضة الرفاهية بتقييد العمل السياسي فإنه لا يمكن اعتبار المثال التونسي من ضمنها بكل تأكيد
و في الآن ذاته، وفي قطيعة كذلك عن الأمثلة المعروفة في القرن العشرين، فإن الاستبداد الجديد في تونس لا
ُيظهر سوى اهتمام ضئيل بكسب المساندة عبر الولاء الايديولوجي . و
هذا لا يعني طبعا أن سعيد يستغني عن
التأثير الأيديولوجي تماما، فنزعته “المحافظة الطوباوية” واضحة ومحببة لشريحة هامة من المحافظين من غير
الإسلاميين وتمثالته وأفكاره العالمثالثّية– المتخمة بالإشارات لمفاهيم السيادة االقتصادية والتحدي ذي
الصبغة المسرحية لصندوق النقد الدولي – يجد قبوًلا بين الشباب وقطاعات كبيرة من اليسار وتأييده لنظرية
“الاستبدال العظيم” يحظى بالمساندة من الفئات التي تميل إلى ربط أسباب الأزمات
العالمية بالشرائح الأكثر ضعفًا في المجتمع. و
و مع ذلك، فإن كل هذا لا يغير حقيقة أن سعيد وحلفائهلايظهرون أّي شكل من الطموح والوسائل اللازمة لبناء
ماهية ثورية )مضادة(. فمبادرات التأثير الشعبي، إن جاز لنا أن نسميها كذلك، تقتصر اليوم على النشاط السيبراني
الشكلي والدعاية التي يقوم بها “المؤسسون”، وهم مجموعة منالأنصار الذين ساعدوا في هندسة صعود
سعيد ولكن سرعان ما فقدوا إشعاعهم على إثر وصول رمزهم إلى السلطة . أما الرسائل التي يبعث بها
النظام، فتعتمد على إلقاء خطابات منّمقة باللغة العربية الفصحى التي لا تستطيع الأغلبية الواسعة من
التونسيين فهمها غير أن المدافعين عن سعيد في وسائل الاعلام كثيرون، ولا ينبغي التهوين من عملهم في
نشر أطره الأيديولوجية. أما أولئك الذين يمكن أن يقدموا بديلا عنهم فلا يجدون سوى مساحة متضائلة مع
الوقت لتقديم طرحهم المناهض للسلطة: إذ شهدت بداية سنة ،2023 اعتقال شخصيات معارضة )من بينها
عدد من الصحفيين( بوتيرة متزايدة، فضلا عن القيود الاخرى المفروضة على حرية التعبير – ومن أكثرها خطورة
المرسوم عدد 54 لسنة ،2022 الذي يهدف ظاهريا إلى مكافحة انتشار “االأخبار المزيفة” – .
كما أن تجاهل مسائل الشرعية يضع من الحكم الاستبدادي التونسي حالة غير مطابقة تماما للنماذج القائمة،
فإن نهج الرئيس في مأسسة سلطته يبقى على غاية من التفّرد كذلك. حيث يتبع منهج سعيد، الذي يحكم بشكل
أو بآخر عبر المراسيم والأوامر، تفسيًرا قانونًيا وحرفًيا لمقولة بورقيبة ”أي نظام؟ أنا النظام! وفي الواقع ، فإن
المواقع الحكومية التي ظلت مستقلة سابقا عن مكتب الرئاسة إما قد تم إغلاقها أو الاستيلاء عليها في ظل
السنتين الأخيرتين . وتم تجميد برلمان 2019 في 25 جويلية 2021 ثم حله في مارس . ثم تم
الالتفاف على الاشكاليت القانونية المتعلقة بالتسلسل القيادي العسكري عبر إعلان سعّيد لنفسه قائدًا
في ماي .2021 و ُضرب مبدأ استقالالية السلطة القضائية والقضاة عبر عدد من المناورات القاسية خلال سنة
على غرار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد )INLUCC )فقد تم إغالقها.
كما تجنب سعيد أيًضا الاعتماد على مختلف الوسائل األخرى المتاحة لترسيخ نظامه مؤسسًيا بين النخبة والشبكات
الاجتماعية. فعلى الرغم من لقاءاته المتكررة مع رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة )UTICA)، فإن سعيد
ساهم بشكل كبير في إضعاف الروابط العميقة، الرسمية منها وغير الرسمية، التي تجمع بين الدولة والفئات
الاقتصادية الأكثر تأثيرا. كما دّمر سعيد أطر التفاهم التي جمعت منذ رحيل بن علي بين الطبقة الحاكمة ورجال
الأعمال بشكل منتظم، ورفض كذلك المبادرة التي قدمها كل من الاتحاد العام التونسي للشغل )UGTT )وشركاؤه في المجتمع المدني،
نتيجة كّل ذلك تحويل السياسة التونسية إلى فراغ مؤسساتي: أي شكل من أشكال الجماهيرية الليبية بدون بنية قبلية أوعائدات نفطية .
و بالطبع، فإن تأثيرات كل هذا متنوعة وبعيدة المدى. وبعضها حيني يتجّسم الان ، ومن ضمن ذلك فشل الرئيس
في توسيع دائرة كبار مستشاريه إلى ما هو أبعد من الدائرة الضيقة لأصدقائه الذين رافقوه في رحلة الوصول
إلى قصر قرطاج سنة 2019 على غرار رضا شهاب المكي، سنية الشربطي وزوجها )وزير الداخلية الحالي( كمال
الفقي، ونوفل شقيق الرئيس، مع عدم نجاح فاعلين جدد مرتبطين بقاعدة اجتماعية مستقلة في اقتحام هذه
الدائرة. وفي هذه الأثناء، قد تكون الجهود الرامية إلى توليد نخبة سياسية أمنية جديدة مستمرة – ويتجلى ذلك
في استمرار تعيين سعيد المتكرر لضباط عسكريين في مجلس الوزراء و الولاة دون اتباع استراتيجية مخطط له مسبقا.
يمكن للفراغ المؤسساتي الذي أحدثه سعيد في البلاد أن يعّبر عن صعوبات المنظومة الحاكمة في دمج
المنافسين المحتملين والحفاظ على تماسك النخب. وبالنسبة إلى النقطة الأولى يمكن الإشارة إلى تصعيد عضو
المكتب تنفيذي السابق للاتحاد العام التونسي للشغل محمد علي البوغديري الذي تولى منصب وزير التربية في
جانفي الماضي – و دخل في نزاع طويل الأمد مع الأمين العام الحالي للاتحاد العام التونسي للشغل نور
الدين الطبوبي –. وينسحب الألمر كذلك على تصعيد حلفائه من التنسيقيات، وقد عملت هذه التنسيقيات في
المقام الأول عىل تأمين فرص العمل للشباب الذين يقودونها وتوجيههم إلى مناصب السلطة سواء ضمن
المجلس الوطني للجهات والأقاليم أو المجالس المحلية ولكن في نهاية المطاف، تعتبر مثل هذه الأمثلة
استثناءات تثبت قاعدة العجز المّعمم.
*كولين باورز هو زميل أول ورئيس تحرير برنامج نوريا لمنطقة الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا. حاصل على درجة الدكتوراه من كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية
المتقدمة في سنة 2020 ، عمل إثر ذلك كباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراة بكلية
العلوم السياسية في باريس سنة .2022 تحصل باورز عىل منحة “فولبرايت” مرتين
ويمتلك خبرة بحثية تتجاوز العقد من الزمن حول منطقة الشرق األوسط وشمال
أفريقيا.
“باورز” هو متخصص في الاقتصاد السياسي من حيث التكوين وقد قام بعمل بحثي
ميداني في فلسطين، والأردن، وتونس، كما ُنشرت أبحاثه في عديد المجلات
الأكاديمية والصحافة الدولّية و عدد من المراكز البحثّ