جاء في ديباجة المشروع الذي أعده الرئيس قيس سعيد: “وإنّنا، في هذا الاستحضار لتاريخ تونس الدستوري، تقتضي الأمانة التّأكيد على أن من أهم النصوص الدستورية الدستور الذي عرفته في مطلع القرن السابع عشر وكان يحمل اسم الميزان ويعرف عند السكان آنذاك بالزمام الأحمر لأن سفره كان أحمر اللون. وقد حرره تونسيون ممن كانوا مؤمنين بقيمة العدل الذي يرمز إليه الميزان. وتمّ توزيعه على السكان الذين كانوا يلوذون بما فيه من أحكام أن توقعوا حيفا ممن كانوا يسمون بالخاصة”. هذا التنصيص على وجود دستور بداية القرن السابع عشر، يؤكد هوس ” الرئيس الأستاذ” بالتاريخ. إلا أن هذا الهوس يؤدي إلى مغالطات تاريخية فيها الكثير من الانتقائية والتلاعب.
في المغالطات التاريخية
هوس الرئيس بالتاريخ ورجوعه إلى دستور قرطاج ” القرن الخامس قبل الميلاد” وعهد الأمان “1857” إعلان حقوق الراعي والرعية وقانون الدولة التونسية “لسنة 1861″ دفعه إلى ذكر نص قدمه الرئيس على أنّه الدستور الذي عرفته تونس في مطلع القرن السابع عشر وسمّاه دستور الميزان أو الزمام الأحمر. إن هذه المعلومة التي يوردها الرئيس في مشروع الدستور خالية من أي وجاهة علمية تاريخية. وقد أجابته المؤرخة ليلى بلّيلي وأكد توجهها مؤرخون عدة منهم سامي البرقاوي، ليبيّنوا بأنه لم يكن في تونس في مطلع القرن السابع عشر أي دستور يسمى بالزمام الأحمر ولم يطلع عليه أحد إن وجد، و أن الرئيس قد يكون قارئا جيدا التبس عليه الأمر من دون أن يدرك معناه. فقد استند إلى إشارتيْن وردتا في كتاب أحمد ابن أبي ضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان ” الجزء 2، ص 29″ وبكتاب المؤنس في تاريخ أفريقية وتونس لابن أبي دينار ص. 227، و اللذين تحدثا عن هذا الدفتر والذي من الأرجح أن يكون دفترا جبائيا لا يمتّ للنص الدستوري بصلة. هذا الخطأ العلمي/ التاريخي الفادح ينم عن جهل و حيف من ناحية المعارف العلمية و لكن أيضا عن رغبة في إعادة كتابة التاريخ و تصحيحه.
الهوس بإعادة كتابة التاريخ
لم يخفِ الرئيس ومنذ البداية رغبته في إعادة كتابة التاريخ وهو ما أدى به إلى تغيير تاريخ الثورة التونسية و حصرها فقط في يوم 17 ديسمبر 2010. و أصدر في ذلك أمره المؤرخ في 7 ديسمبر2021 ليغير رسميا هذا التاريخ. هذا المنحى التاريخي في سياسة الأستاذ الرئيس يتجلى الآن في أوضح تجلياته في توطئة مشروع دستوره حيث يعلن: ” كان لا بد من موقع الشعور بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثورة بل ومن تصحيح مسار التاريخ”. هذا الهوس بإعادة صياغة التاريخ أدى بالرئيس إلى الانتقائية في اختيار التواريخ والأحداث وإلى رسم الذاكرة الوطنية على هواه بهدف تركيز سلطة مطلقة على الحاضر والمستقبل بل وأيضا على الماضي.
إن الانتقائية التي يسلكها رئيس الجمهورية في اختيار الأحداث الدستورية بما فيها من دلالات تشكل خطرا كبيرا على التاريخ الدستوري التونسي. فتوطئة الدستور تعود إلى دستور قرطاج ودستور «”لزمام الأحمر” (المتخيل او المفترض من قبل الرئيس) وعهد الأمان 1857 ودستور 1861 بينما تغفل التنصيص صراحة على دستوري 1959 و 2014.
وللتذكير، فإن الدساتير السابقة لسنة 1959 كانت كلها دساتير غير ديمقراطية على مستوى إعدادها و إصدارها حيث تدخل في مجال الدساتير الممنوحة من قبل “الحاكم لرعيته”. وهو ما يتطابق عامة مع رؤية سعيد لطريقة وضع الدساتير. الحاكم يضع دستوره و تبايعه رعيته عليه و هذه الدساتير التي استند عليها الرئيس في توطئة مشروعه وقد أسّست جميعها لحكم الفرد المطلق.
ثم ان كل هذه الدساتير كانت نتيجة هيمنة أجنبية على تونس سواء في الزمام الأحمر وحكم الدايات العثمانيين وعهد الأمان ودستور 1861 وضغط القناصل الأوروبيين على ملوك تونس.
إن هذا الربط المباشر بين مشروع دستور الرئيس سعيد ودساتير الملكية في تونس فيه من الدلالات الكثير، خاصة عندما تغفل التوطئة على ذكر دستوريْ الجمهورية صراحة.
في التلاعب بالتاريخ الدستوري التونسي
إن الإغفال المتعمّد لذكر دستوريْ 1959 و2014 في توطئة مشروع دستور 2022 يؤشّر إلى نكران واضح لهذين الحدثين الهامين في التاريخ السياسي التونسي. هذا الإنكار الذي ينمّ عن عدوانية و تعالٍ على الأحداث السياسية العامة لدولة الاستقلال من ناحية، و تلاعب بالذاكرة الوطنية، و هو ما لم يمنع الرئيس من اقتباس أجزاء كبيرة من هذين الدستورين وضمّها في مشروعه. ذلك أن أفضل ما ورد في مشروع الدستور قد تأتى من دستور 2014 “وخاصة قائمة الحقوق والحريات” وأن التنظيم السياسي و علاقات السلط تم اقتباسها من دستور 1959. و بعملية حسابية بسيطة نرى أن أكثر من 60% من مشروع الدستور هو تكريس مباشر لفصول وأحكام دستوري 1959 و2014.
ان طريقة تعامل مشروع الرئيس مع التاريخ الدستوري و السياسي التونسي يبرز و بوضوح الرغبة في إعادة كتابة التاريخ والتأثير على الذاكرة الوطنية وانطلاق التاريخ من دستوره أو مشروع دستوره وجعل الأحداث التاريخية الوطنية مرتبطة به، كما فعل ذلك من خلال استيلائه على تاريخ الثورة “17 ديسمبر 2010” و “14 جانفي 2011” وربط تاريخ 25 جويلية، عيد الجمهورية بانقلابه في 2021 والقيام بالاستفتاء في 2022. كل هذه المؤشرات تدل حسب علماء السياسة وعلماء الانتقال على توجّه استبداديّ في السيطرة على الوجدان التونسي.
وعليه، تشكّل المغالطات التاريخية والتلاعب بأهم الأحداث الوطنية والتاريخ الدستوري لتونس والانتقائية والرغبة في صياغة تاريخ جديد بذاتها سببا لرفض دستور قيس سعيد، سببا يضاف إلى أسباب كثيرة أخرى أعرضها في مقالات تنشر تباعا.
- وحيد الفرشيشي هو رئيس الهيئة الإدارية لمكتب “المفكرة القانونية” في تونس. أستاذ في القانون العام بجامعة قرطاج، كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية