قال الوزير المغربي السابق لحسن حداد إن الشعبوية مزاج جماعي نابع من سخط مجتمعي عارم يقوده رواد يستغلون إحباط فئات عريضة للدفع بحلول غير واقعية ويُكرِّسون نفس الإحباط واليأس، اللذين يأتون لإزالتهما، معتبرا إياها عدوا لأي إجماع مجتمعي في زمن الأزمة مثلما وقع في زمن “كورونا” وما يقع الآن مع أزمة الأسعار والتضخم.
وأضاف حداد، في مقال تحت عنوان “في تفكيك الخطاب الشعبوي”، أن الشعبوية صارت شبه إيديولوجيا تحكم سياسات ومقاربات للشأن العام، مؤكدا أنها لم تعد حركة هامشية كما كانت في السابق، ولا تقتصر على دولة دون غيرها أو على منطقة دون غيرها.
وهذا نص المقال:
ليست الشعبوية خطرا على الديمقراطية في الأوقات العادية فحسب، ولكنها كذلك عدوّ لأي إجماع مجتمعي في زمن الأزمة مثلما وقع في زمن “كورونا” وما يقع الآن مع أزمة الأسعار والتضخم. لهذا وجب علينا أن نُشَرِّحَها ونحللها ونفكك خطاباتها، أملاً في التسلح بفهم عميق لها من أجل ليس القضاء عليها ولكن على الأقل تحويلها إلى نقد بناء ونقاش ديمقراطي عقلاني متأنٍّ للقضايا التي تهم الدول والمجتمعات.
الفايك نيوز” والحلول السهلة ومعاداة النخب صارت متداولة بشكل مهول ويومي من طرف شرائح عريضة من الناس. الشعبوية مزاج جماعي نابع من سخط مجتمعي عارم يقوده رواد يستغلون إحباط فئات عريضة للدفع بحلول غير واقعية، وبذلك يُكرِّسون نفس الإحباط واليأس اللذين يأتون لإزالتهما.
وهذ الأمر لا يهم فقط دولة دون أخرى، أو شعبا معينا دون سائر الشعوب. الأخبار الزائفة وأنصاف الحقائق صارت موضة للتواصل والتحاور ما دام الهدف هو تحقيق مآرب سياسية وإعلامية آنية. بل إن دونالد ترامب حين كان رئيس أقوى دولة في العالم، وصل أكثر من عشرة آلاف كذبة (ونصف حقيقة) في ظل سنتين من ولايته، حسب “واشنطن بوست”. هنا رؤساء دول قريبة وبعيدة منا تجعل من “الفايك نيوز” طريقة في الحكم والتواصل، بل إن وكالة أنباء بلد شمال إفريقي قريب من المغرب تنشر أكثر من 80 بالمائة من القصاصات حول المغرب، جلها أنباء كاذبة ومفبركة ولا أساس لها من الصحة.
الموقف الشعبوي صار أكثر إغراء من عملية قول الحقيقة، والحلول السهلة السحرية أكثر قدرة على التعبئة من العمل الديمقراطي المتأني المتميز بالنقاش والتفاوض واتخاذ القرارات بصفة جماعية، ومهاجمة الأشخاص وشيطنتهم أكثر تداولًا من النقد البناء.
الشعبوية سهلة المِراس ولكنها وخيمة العواقب، في متناول الجميع ولكنها لا تخدم الديمقراطية ولا تقدم المجتمعات. فهي تولد اليأس والغضب بدل الأمل والإيمان بالمصير المشترك. ملايين الأشخاص في المغرب وفي دول أخرى يصيحون ويكتبون وينشرون ويُدَوِّنون يوميا عبر “الفايسبوك” وفي المقاهي والنوادي الشعبية وينتفضون ضد “غول الفساد” و”الاستبداد” و”الريع” و”المناصب السمينة” دون التأكد من هوية هؤلاء المفسدين، ولا التفريق بين من هو مفسد ومن هو غير ذلك، ودون أخذ عناء الوصول إلى الحقائق عبر معطيات متأكد من صحتها ودلائل دامغة لا غبار عليها.
“كلكم مفسدون وكلكم ظالمون وكلكم متمكنون، أما نحن الشعب فنعيش الظلم والتهميش والاحتقار. فاذهبوا كلكم إلى الجحيم. سيأتي يوم سنتخلص فيه منكم جميعًا ونعاقبكم على ما كنتم تفعلون”. هذا هو شعار جيوش “الفايسبوك” الغاضبة، التي تتكلم باسم الشعب دون أن يُنصِّبها أحد وصيا عليه أو ناطقا باسمه، وتشتكي التهميش رغم أن الكثير منها ينتمي إلى الطبقات الوسطى المتعلمة، وتصنع من النخبة والطبقة السياسية بعبعًا لا تهمه إلا المصالح والاغتناء، رغم أنها تدرك أن جزءاً ليس بالهين من هذه النخبة ليس فاسدًا ولا غنيًا ولا متمكنًا.
صارت الشعبوية شبه إيديولوجيا تحكم سياسات ومقاربات للشأن العام في هنغاريا وإيطاليا والولايات المتحدة وسريلانكا وفنزويلا والجزائر وبوليفيا والبرازيل وغيرها. أي أنها لم تعد حركة هامشية كما كانت في السابق، بل إن شرائح عديدة من المجتمع تلجأ إليها في ظل تنامي حركات الهجرة، وتأثير الأتمتة على سوق الشغل، وتنامي التأثيرات السلبية للعولمة. ولا تقتصر الشعبوية على دولة دون غيرها أو على منطقة دون غيرها. إنها “شبه حركة” أفرزتها العولمة والرقمنة وتوالي الأزمات وانهيار النماذج الاقتصادية المُعتمَدة منذ عقود والتغيرات المناخية والحروب الأهلية وحركات الهجرة واللجوء وغيرها.
لهذا عمّت كل أنحاء المعمور. تُذَكِّرُ شعبيتها بانجذاب أجيال متعددة ومتوالية لحركات شمولية واستبدادية مثل الفاشية والنازية والشيوعية والأصولية مع الفرق في النسق والبناء والتعقيد الإيديولوجي. والفارق الأساسي هو أن الشعبوية ليست نظامًا إيديولوجيا وسياسيًا متكاملًا كما هو الحال مع الفاشية والنازية والشيوعية. إنها حساسية وثقافة هجينة يختلط فيه الحس القومجي ومقولة فضفاضة للشعب وجلد جماعي للذات وخلق منتظم ومستمر لأكباش الفداء.
الشعبوية هي تعبير عن قلق جماعي غير عقلاني تتحكم فيه العاطفة والأحكام الجاهزة ومقاربة مؤامراتية للواقع تحمل سردًا يكون بموجبه الوطن والأمة ضحيتين لخطط “شيطانية” مدبرة من طرف أناس يحملون أفكارا مضرة بالمصلحة العامة وقضايا الشعب.
تُقدِّم الشعبوية حلولا سهلة وتهاجم النخب ووسائل الإعلام الجادة والمجتمع المدني، وهي بذلك تضر بأسس الديمقراطية ومجتمعات التعدد والنقاش والاختلاف في العمق. الديمقراطية عملية متأنية تتطلب الوقت والنقاش والطرح والطرح المضاد للوصول إلى رأي تقول به الأغلبية، نسبية كانت أو مطلقة، وهي كذلك مسلسل يتبنى الحلول المعقدة لا الوصفات السحرية.
يرى الموقف الشعبوي في الديمقراطية هدرا للزمن (المغاربة يتفنّون مثلا في وصف الوقت الذي يأخذه العمل الديمقراطي: “هدر الزمن السياسي”، و”هدر الزمن الحكومي”…)، ويرون فيه محاولة للتراجع عن المشاريع والمخططات والالتواء عليها وتهريب الموارد.
لهذا تجد صفحات “الفايسبوك” حبلى بالوصفات السحرية في كل البلدان، من قبيل: إسكات صوت الحكومات والبرلمانات وإعطاء الكلمة للشعب؛ فضح أصحاب الثروات والتشهير بهم ووضع ضريبة على الثروة؛ إلغاء تقاعد البرلمانيين والوزراء واستعمال الأموال المحصلة من هذه العملية في بناء المدارس والمستشفيات. تأتي الحلول السحرية معززة بأرقام خيالية تصبح حقائق لأنها تنتشر بسرعة واسعة وتغذي غضبًا جماعيًا عارمًا تقوم بترويجه الأسر والجمعيات ووسائل الإعلام وحتى المعلمون والأساتذة.
هكذا يُترجم قلق شرائح عريضة من الطبقة الوسطى بشأن المسكن والراتب والتطبيب والنقل وغلاء المعيشة إلى وصفات سحرية تقدم حلولًا واضحة للعيان وسهلة إن أخذت بها الطبقة السياسية حلت مشاكل البلاد والعباد، وكأن المجتمعات صارت مسرحًا لميلودراما أبطالها “الشعب المسكين المغلوب على أمره” و”الطبقة الوسطى المنهوكة” و”الفقراء المفرغة جيوبهم” من جهة، ونخبة فاسدة متربصة ومتآمرة على الشعب والوطن باسم الديمقراطية والشرعية من جهة أخرى.
على المثقفين والساسة والمجتمع المدني ورجال ونساء الإعلام بلورة رد فكري وتحليلي على تنامي هذا الخطاب وتجذره وسط المجتمعات الغربية ودول الجنوب على حد سواء. على هذا المشروع الفكري أن يكون في جله تحليليا وتاريخيا يتوخى فهم الظاهرة؛ وعلى المقاربة أن تكون في نفس الوقت تاريخية، أي تأخذ سياقات معينة وتحاول فهم الظاهرة داخل النسق الاجتماعي والسياسي لدول ومجتمعات بعينها، وكذلك سوسيولوجية تتبنى المقاربة “النقدية/ الثقافية”، التي ترى في الفعل السياسي امتدادًا وتعبيرا، أحيانًا معكوسًا وأحيانًا مباشرًا، لقيم ومنظومات ملتصقة بمجموعات ذات مصالح إيديولوجية واقتصادية معينة.
ليست هناك حلول جاهزة، ولكني أقترح أن تكون التحليلات كلها تصب في خانة الدفاع المستميت عن الديمقراطية ومجتمعات الحرية والحوار والنقاش. يجب إعادة التأسيس لمجتمعات مطارحة الأفكار ومقارعتها والبناء المتأني للسياسات، التي تتبناها شرائح متعددة قادرة على تكوين أغلبية مع إعطاء فضاء لطرح أفكار مضادة، أي رأي الأقليات والمعارضة والأفكار الهامشية والمشاكسة.
علينا كذلك أن نقدم أفكارا حول العولمة والديمقراطية وضرورة بناء نموذج اقتصادي جديد. لقد قمت في السابق بمعية لاري كولي وستيفانو براتو، في إطار مساهمة المنظمة العالمية للتنمية، بوضع قاعدة مفاهيمية لإعادة طرح العولمة في إطار نقاش متجدد يأخذ بعين الاعتبار مستجدات الاقتصاد العالمي وظهور نزعات حمائية وبلوغ سياسة المساعدات التنموية ذات التوجه العالمي مداها وظهور أصوات مطالبة بعدالة أكثر وتوزيع عادل للأدوار، خصوصا الآن وأكثر من أي وقت مضى في خضم جائحة كورونا وبعدها (“إعادة بناء/ صياغة العولمة.. من أجل نظام اقتصادي عالمي جديد”، لاري كولي، لحسن حداد، ستيفانو براتو، أرتيكل 19، 15 ماي 2018). في هذا الإطار وضعنا تصورًا جديدًا لتسهيل النقاش على المستوى الأممي ومجموعة العشرين ومنتديات أخرى، وتصور عولمة أكثر عدلا لدول الشمال ودول الجنوب على حد سواء. مسألة العولمة وإعادة بنائها في إطار تصور أكثر إنصافا للمجتمعات والدول على حد سواء، تعد من أولويات العمل الدولي المشترك في السنوات المقبلة.
علينا كذلك أن نؤسس لديمقراطية مركبة وأكثر تعقيدًا بالمعنى الإيجابي للكلمة. وهنا أحيل على أطروحة الفيلسوف الإسباني دانييل إنيراريتي حول الديمقراطية المركبة/ المعقدة كجواب عن الحلول السهلة التي يقول بها الخطاب الشعبوي. (“من أجل ديمقراطية مركبة”.. حماية الديمقراطية الليبرالية، 12 ديسمبر 2016). ما يدفع به الفيلسوف الإسباني دانييل إنيراريتي هو مقاربة متعددة المستويات لقضايا التنمية والمجتمع والسياسة؛ المشكل هو أن المجتمعات تصير يوما بعد يوم معقدة، مركبة ومتعددة الجوانب، لكن المقاربات السياسية الديمقراطية تبقى سطحية وغير ناجعة؛ وهذا ما يؤدي إلى الانفجار والتعبئة ضد المؤسسات وشبه الثورات وطغيان المد الشعبوي. لهذا من الضروري واللازم تغيير المقاربة وجعلها أعقد وأكثر تركيبًا لتلائم بنية المجتمعات المغالية في التركيب والتعقيد.
علينا كذلك أن نعمل جميعا على بلورة نموذج عالمي اقتصادي جديد لا يركز على الاستهلاك المفرط ولا على تعميق الفجوة بين الدول والجهات والطبقات؛ بل آن الأوان لوضع نموذج نظام تضامني مستديم يركز على محاربة الفقر والفوارق، وفي نفس الآن يستغل الموارد استغلالا يضمن التجدد وصيانة حقوق الأجيال القادمة. المعادلة ليست سهلة، ولكنها ممكنة وربما الطريق الوحيد الأنجع لكبح جماح غضب العديد من الشرائح التي ترى المستقبل مظلمًا، خصوصًا مع تنامي الهجرة واللجوء من مناطق غزتها مظاهر التحولات المناخية وكسرت أنظمتها التقليدية في الإنتاج والعيش الكريم.
الشعبوية أكبر عدو للديمقراطية راهناً ومستقبلا، والمطلوب هو إعادة النظر في الديمقراطية لتتجاوب بطريقة أكثر نجاعة مع هموم المواطنين. في عصر الرقمنة يمكن المرور إلى طرق جديدة في أخذ القرارات تضمن مشاركة المواطن وتتبعه للمشاريع وإسماع صوته. كلما كان المواطن شريكا في التنمية كلما قل لجوؤه إلى استهلاك الأخبار الزائفة.
من جانب آخر، على المجتمع المدني أن يتعبأ لمحاربة “الفايك نيوز” والحلول السهلة والخطاب المُرَوِّج لليأس والصانع لأكباش الفداء. وضع مراصد وجمعيات لتتبع الأخبار الزائفة وتوخي الحقيقة والتأسيس لقيم الموضوعية والنقاش، نقاش الأفكار لا نقاش الأشخاص، هي إحدى الآليات المتاحة للمساهمة في إعادة إنتاج المجتمعات الديمقراطية والحرة. وسائل الإعلام الأمريكية الجادة وضعت تطبيقات وخبراء همهم الوحيد هو غربلة الصحيح من الخاطئ، والحقيقي من الزائف… هذا هو دور الإعلام.. أن يكون شريكا في بناء المجتمع الحر، لا المجتمع الذي يقتات على فبركة الأخبار وصناعة أكباش الفداء.