الرئيسيةالأولىيوم قال سعيد أن الاستفتاءات أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرّة

يوم قال سعيد أن الاستفتاءات أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرّة

يفاخر قيس سعيّد بثباته على العهد ووفائه “للدستور” الذي “خطّه الشباب على الجدران” في سيدي بوزيد ومنزل بوزيّان. كما لم يخف البتّة منذ السنوات الأولى من الثورة تحبيذه للنظام الرئاسي وللانتخاب على الأفراد في دوائر ضيّقة ولبناء الدولة الذي يراه منطلقا من المحليّات وصولا إلى مجلس النوّاب. كلّ ذلك ثابت وراسخ وليس في ذلك غرابة نظرا لكون ما سبق هو كنه مشروعه الذي ما انفكّ يدافع عنه منذ كان يلبس جبّة الأستاذ الخبير. الاّ أنّ هذا الثبات في رؤية المشروع الشخصيّ لسعيّد، ما قبل الانتخابات، أخذ يتزعزع منذ تولي الرئيس سدّة الحكم.

تحقيق مشروعي رهين احترام الإجراءات الدستورية: زيف كشفه 25 جويلية

خلال حملته التفسيرية، كان المترشح قيس سعيّد يؤكّد أنّ “تحقيق مشروعه ليس رهين ارادته بل هو رهين إرادة المجلس النيابي، الذي يمكنه أن يقبل كما يمكنه أن يرفض باعتبار أن نصّ الدستور لا يمكن تعديله إلاّ بتوفر أغلبيّة الثلثين ولا بدّ من الاحترام الحرفيّ للدستور” مضيفا “لست أنا من يعدّل الدستور بل السلطة التشريعية هي من تقرّر تعديل الدستور من عدمه وتتجمّل مسؤوليّة ذلك…أنا لست مشرّعا ولن أحلّ محلّها”.

في 2019، بدا المترشح سعيّد مقتنعا بقواعد اللعبة السياسيّة محترما لها متناغما مع المنطق الديمقراطي الذي يضبطه الدستور. فلرئيس الجمهورية صلاحياته وللبرلمان دوره التشريعي وبدى موقنا لضوابط تعديل الدستور ولدور كلّ سلطة. الاّ أنّ 25 جويلية قلبت كلّ الموازين في تصوّر سعيّد الرئيس، حيث استغلّ الحالة الاستثنائيّة على عكس هدفها الأصليّ للحلول محلّ المجلس النيابي، تعديل الدستور وتمرير تصوّره للدولة باسم “إرادة الشعب”.

قد يقال بأنّ لكلّ سياق سياسي خطابه وأن الخطابات السياسيّة لا تُلزم سوى من يصدّقها، الاّ أنّ ذلك يتناقض جوهريا مع الصورة التي يريد سعيّد الرئيس الترويج لها من أمانة وطهورية سياسيّة.

“ما قيمة الدساتير ان كانت تتغير بمجرّد تغيّر التوازنات؟”

ليست هذه المرّة الأولى التي يجنح فيها رئيس تونسي إلى فكرة تعديل دستور الدولة. بداية من بورقيبة مرورا ببن علي وصولا للباجي قايد السبسي وختاما بقيس سعيّد. لكلّ رئيس أسبابه؛ تمديد الولايات الدستورية للرئيس في عهد بن علي، ضيق صلاحيات الرئيس في دستور 2014 في نظر الراحل قايد السبسي و بناء الجمهورية الجديدة في قول سعيّد.

اللافت أن سعيّد تميز بانتقاده بعض أسلافه الذين اتجهوا في هذا الاتجاه. ف حال تعبير الباجي قايد السبسي عن عدم رفضه لفكرة تعديل الدستور، استنكر سعيّد متسائلا: “هل هناك ما يدعو إلى ذلك وهل أنّه كلّما تغيّرت التوازنات السياسية يجب إدخال تعديل على الدستور؟“. ليضيف: “ما هي قيمة الدساتير ان كانت تتغير بمجرّد تغيّر التوازنات”.

بدا سعيّد سنة 2016، مقتنعا بأنّ دستور 2014 قد وُضع نتيجة جملة من الاتّفاقات خاصة إثر الأزمة التي عرفتها تونس سنة 2013 حيث كان “كلّ طرف في تلك الفترة يقترح أو يقدّم اقتراحا بناء على قراءته لنتائج الانتخابات التي سيتمّ تنظيمها”. وقد انتقد بشدّة فكرة تعديل الدستور المحكوم بتغيّر موازين القوى السياسيّة ممثّلا تعديل الدستور بالجسد قائلا؛ “يتغيّر الجسد فيتغيّر الثوب واللباس وكأنّ اللباس فضفاض بالنسبة إلى البعض وكأنه ضيّق بالنسبة إلى البعض الآخر لذلك يطالبون برتقه أو إدخال تعديلات عليه”.

لعلّ قيس كان صادقا حين علّق على فكرة التعديل الدستوري سنة 2016، إلاّ أنّ سعيّد أدرك أنّ الدستور لا يمكن أن يتّسع ليشمل مشروعه السياسي المنشود والذي عبّر عنه منذ 2012. فكيف يمكن تمرير الاقتراع على الأفراد في دوائر غير متوازنة ديمغرافيا، وخاصّة النظام الرئاسي أو البناء من المحلّي إلى المركز من دون الخروج عن دستور 2014؟

يبدو أن بوصلة الرئيس قد شابها ما كان يعيبه على الآخرين، أي تعديل النصّ الدستوري حسب اختلال الموازين السياسية. فما أن مالت الكفّة لصالحه، صبّ جام غضبه وعلّق الأزمات التي تعيشها البلاد سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا على دستور 2014 ليسقط مجددا فيما كان يعيبه على العشرية السابقة: اختزال الأزمات في ملعب يعرفه: الملعب الدستوري.

“لا أشارك إن لم تكن مقترحاتي ملزمة”: القاعدة تستثني مشروعي

سنة 2013، أعلن رئيس المجلس الوطني التأسيسي أنّ اللجنة المشتركة للتنسيق وصياغة الدستور قررت اعتماد مجموعة من الخبراء لتقبّل مقترحاتهم حول مسودّة الدستور “قصد الاستئناس بها في الصياغة النهائية” قبل تقديمها للجلسة العامّة. حينها، تمّت دعوة قيس سعيّد كخبير في القانون الدستوري إلى جانب ثلّة من الأساتذة. الاّ أنّه رفض رفقة حفيظة شقير، عياض بن عاشور وشفيق صرصار المشاركة باعتبار أنّ المقترحات المقدّمة ليست ملزمة للجنة.

تسع سنوات، كانت كفيلة بأن يغيّر سعيّد موقفه جوهريّا أو لعلّه الاستقواء بالتدابير الاستثنائيّة. في إثر أشهر من الحكم الفردي، أعلن سعيّد عن انطلاق حوار وطني تسوسه الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة  يرأسها الصادق بلعيد وكلّفها بتقديم اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة يقدم إلى رئيس الجمهورية. ولم يغفل سعيّد من خلال المرسوم المنظم للهيئة على التأكيد على الصبغة الاستشارية للهيئة، حيث تبقى مخرجاتها مجرّد مقترحات لرئيس الجمهورية قبولها أو رفضها. تمشٍّ لم يكن قيس سعيّد الخبير ليتوخاه أو يقبل به، الاّ أنّ لجبّة السلطة فنون حياكتها. دعم الخبراء الذي بحث عنه المجلس الوطني التأسيسي في 2013 لصياغة دستور توافقي ولم يجده، على الأقلّ من قبل قيس، وجده اليوم سعيّد من قبل الصادق بلعيد الذي يشرف اليوم على لجنة فنيّة مفتقرة للصبغة التقريرية وتدافع عن مسار تعديل الدستور والمرور للاستفتاء تحت سامي رعاية الرئيس.

الاستفتاءات أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرّة

بتصفّح المقالات التي تضمّنت مواقف الأستاذ قيس سعيّد من الاستفتاء قبل توليه دفّة الحكم تتبلور أربعة أفكار أساسيّة: أولها أنّ “الاستفتاء هو أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرة”، ثانيها أنّ “الاستفتاء يتمّ على صاحب المشروع” لا على النصّ المعروض، ثالثها أنّ “الشعوب العربيّة لا تصوّت بلا”، بل تصوّت بنسب مرتفعة جدّا لصاحب المشروع، أخيرا إن لزم الأمر المرور للاستفتاء فيجب “ضمان شروط دنيا” من أهمّها نسبة دنيا لمشاركة المواطنين. لعلّ المهمّ في الأمر ليس التصوّر في ذاته بقدر ما هو التناقض الذي شاب موقف الأستاذ الرئيس إثر التدابير الاستثنائية.

“هل نُظّم استفتاء في بلادنا العربية ولم يقل الشعب فيه نعم؟ الاستفتاءات أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرة فهي تتنكّر تحت الاستفتاء وتحت عباءة الاستفتاء وقلت في الكثير من المناسبات للطلبة: أتمنى أن أعيش يوما واحدا أرى فيه استفتاء سلبيّا بإحدى البلاد العربية، بأن يقول الشعب لا! لماذا نرى الشعب يقول لا، في هولندا وفي فرنسا وفي بريطانيا وسويسرا أمّا في بلداننا العربية الرقم الذي كان معهودا 99.99% أصبح اليوم أقلّ بقليل من 80% هو نوع من الانتخاب غير المعلن لرئيس الدولة. هو ليس استفتاء حول المشروع ولكن استفتاء حول صاحب المشروع”[1].

هذا ما صدح به الخبير قيس سعيّد سنة 2017 ويجب الإشارة الى أنّها لم تكن المرّة الأولى التي يعبّر فيها عن موقفه من الاستفتاءات التي تجري في البلدان العربيّة. حيث أدلى في 28 أفريل 2013 خلال نشرة أخبار الثامنة على القناة الوطنية التونسية الأولى بأنّ “الاستفتاء كما يُمكن أن يكون أداة لتحقيق الديمقراطية يُمكن أن يكون أداة شكلية في الواقع لإضفاء مشروعية على جملة من الاختيارات التي تمّت وحُسمت“.

يبدو أن موقف سعيّد قد تغيّر جذريا من الاستفتاء في البلدان العربية، خاصّة وأنّه اعتمده كبوّابة لتغيير النظام السياسي المنبثق عن ثورة 2011. يمثّل الاستفتاء اليوم، النقطة المفصليّة بين تأليف مخرجات الاستشارة والمرور إلى دستور جديد. أكثر من ذلك، كلّ ما يفعله سعيّد اليوم هو محاولة إلباس جملة خياراته المحسومة مسبقا رداء ديمقراطيا.

لا يبدو سعيّد اليوم وفيّا لما صرّح به في 2017 حين عبّر عن أمنيته في تصويت الشعب بلا. بل يبدو مصرّا على توظيف جميع موارد الدولة لضمان إجابة إيجابية على الدستور الذي سيُستفتى عليه الشعب التونسي. بدأ هذا التوجّه يتبلور من خلال تغيير تركيبة الهيئة وتعيين أعضائها من قبل الرئيس، وتمادى ليبلغ فتح مراكز الاقتراع من الساعة السادسة صباحا الى العاشرة ليلا. كما تدعّم التوجّه المذكور عن طريق فتح باب التسجيل الآلي من قبل الهيئة العليا للانتخابات و رهن المشاركة في حملة الاستفتاء من عدمه بموافقة الهيئة المعيّنة.

إلى جانب تغيّر الموقف المبدئيّ من الاستفتاء، يبدو أنّ سعيّد غيّر موقفه من ضرورة توفير “شروط دنيا للاستفتاء” على غرار “تحديد نسبة المشاركة”[2] كما يكرّسه، على سبيل الذكر، التشريع التونسي في مادة الاستفتاء المحلّي. إذ يشترط مشاركة ثلث الناخبين المسجّلين على الأقلّ لتكون نتائج الاستفتاء ملزمة للجماعة المحليّة.

لا يبدو سعيّد متجها نحو تكريس الضمانة التي نادى بها سنة 2013، في الاستفتاء المقرّر إجراؤه في 25 جويلية المقبل. أكثر من ذلك يبدو أنّ جبّة التدابير الاستثنائية تتعارض مع هكذا ضمانات. ولعلّ أدلّ شيء على ذلك اعتماد مخرجات الاستشارة الوطنية كتعبير عن “إرادة الشعب”، رغم أنّ نسبة المشاركة لم تتجاوز 4.7% من الجسم الانتخابي. زيادة، يبدو أنّ الرئيس لا يتوقّع البتّة أن يفضي الاستفتاء إلى الاجابة “المأمولة” لديه في 2017. حيث لم يكلّف نفسه عناء تحديد المخرج إن كانت إجابة الشعب “لا” على سؤاله، فهل ستكون العودة إلى دستور 2014 أم للأمر 117 المنظم في باطنه للسلط العمومية وبالتالي البقاء مؤبّدا في فترة الاستثناء؟

يبدو أنّ الهوّة بين ما كان يقوله قيس وما يفعله سعيّد تتعمّق أكثر فأكثر. يضاف لها ما يتغنّى به من استقلالية القضاء وما يفعله في القضاة وما يقوله عن السيادة الوطنية وما يغضّ عنه النظر من تصريحات مسؤولين أشقاء وما يعد به من حقوق وحريّات و بين التقارير الأمنية التي يبني عليها مواقفه. أمّا أخيرا؛ حديثه المطنب عن الأخلاق من جهة واستعمال منبر الرئاسة لاستهداف النساء القاضيات وتشويههنّ دون انتظار الكلمة الفصل من القضاء.


[1]سيمينار حول حوار الباجي قايد السبسي في 23 سبتمبر 2017 بمشاركة قيس سعيد، أحمد بن مصطفى و نوفل سلامة، المجلد السابع والثامن لمرصد الثورة التونسية ، مؤسسة التميمي، ص 28 و29.

[2]حوار مع الأستاذ قيس سعيّد، جريدة السور، ص 10، الثلاثاء 04 جوان 2013

المصدر https://legal-agenda.com/%d8%b3%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%82%d8%b6-%d8%b3%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%a8%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%b3%d8%aa%d9%88%d8%b1/?utm_source=facebook&utm_medium=social&utm_campaign=post&utm_content=saied-al-ra2is-younaked-saied-al-5abir-al-dostouri&fbclid=IwAR01SkfSp4J_Cn3JCVXM_lKYo1CEeZBm0T15R0NHfRQN-YdONMN_UMPL0m0

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

error: Content is protected !!