خلال العقود الأخيرة، كثر الجدل حول هوية القديس أوغسطينوس، أحد أعظم مفكري المسيحية في العالم القديم. يُصرّ البعض على وصفه بأنه “جزائري” بحكم ميلاده في طاغست (سوق أهراس الحالية)، لكن هذه التسمية، رغم وجاهتها الجغرافية، تخفي خطأً تاريخيًا فادحًا، لأنها تُسقط مفاهيم قومية حديثة على زمن لم يعرف الدول الوطنية ولا الحدود السياسية الحالية.
أوغسطينوس لم يكن “جزائريًا” بالمعنى الحديث، بل كان قرطاجيًا بالمعنى الحضاري والثقافي العميق؛ ابنًا لإفريقيا الرومانية التي حافظت على جذورها الفينيقية والبربرية، وعلى روح قرطاج التي ظلت نابضة بعد قرون من تدميرها. عندما دمّر الرومان قرطاج سنة 146 قبل الميلاد، ظنّ العالم أن المدينة انقرضت إلى الأبد، لكن بعد قرن من ذلك، أمر يوليوس قيصر بإعادة بنائها سنة 44 قبل الميلاد. وفي زمن أوغسطينوس (354 – 430 ميلاديًا)، كانت قرطاج عاصمة مزدهرة للإقليم الإفريقي، مركزًا علميًا ولاهوتيًا ينافس روما والإسكندرية.
في هذه المدينة، درس الشاب أوغسطينوس البلاغة، وعاش قصة حب طويلة، وأنجب ابنه أديودات، وبدأ أولى خطواته في التدريس والفكر. قرطاج لم تكن أطلالًا، بل مختبرًا حضاريًا جمع اللاتينية والبونية والأمازيغية والمسيحية في مزيج فريد.
وتُثبت مؤلفات أوغسطينوس أن اللغة البونية – أي الفينيقية القرطاجية – كانت ما تزال حيّة في القرن الرابع الميلادي، فقد كتب بنفسه أن “البونيقيين يسمّون الكنعانيين شاناني”، وأنه كان يستخدم هذه اللغة لفهم النصوص الدينية. حتى والدته “مونيكا”، القديسة لاحقًا، كانت تتحدث البونية بطلاقة.
هذا وحده يكفي ليدحض أسطورة “انقراض القرطاجيين”، ويؤكد أن أوغسطينوس نشأ في وسط ثقافي متعدّد، تتقاطع فيه الذاكرة الفينيقية مع الحسّ المحلي الأمازيغي والانفتاح الروماني.
بين طاغست وهيبون وقرطاج، نسج أوغسطينوس مسار حياته، متنقلاً بين مدن كانت كلها ضمن الفضاء القرطاجي الروماني. وعندما أصبح أسقفًا لهبّون، ظلّ يتردد على قرطاج لحضور المجامع الكنسية، أبرزها مجمع سنة 418 الذي واجه فيه تعاليم بيلاجيوس.
كان أوغسطينوس يتنفس قرطاج، ويكتب بروحها، ويجادل بعقلها، ويحنّ إلى أساطيرها القديمة مثل مأساة الملكة ديدون التي تخلى عنها إينياس في الأسطورة الفينيقية المعروفة.
أن نصف أوغسطينوس بأنه “جزائري” هو إسقاط سياسي على زمن لاهوتي وفلسفي لا يعرف معنى الدولة الحديثة.
الجزائر لم تولد إلا سنة 1962، بعد قرون من الاحتلالات الرومانية والبيزنطية والعربية والعثمانية والفرنسية. أما قرطاج، فكانت منذ قرون طويلة قبل أوغسطينوس هوية ثقافية وليست حدودًا سياسية. هي البحر المتوسط في تعدده، هي الفينيقي والبربري والروماني والمسيحي في جسد واحد.
القول بأن “القرطاجيين اختفوا” هو تبسيط ساذج للتاريخ، مثل القول إن أوغسطينوس كان “جزائريًا”. كلا العبارتين تمحوان استمرارية ثقافية امتدت من صور الفينيقية إلى قرطاج الرومانية فإلى شمال إفريقيا المسيحي.
القديس أوغسطينوس هو ابن قرطاج الأخيرة، المفكر الذي حمل في فكره ما تبقّى من روح ديدون، ومن عناد فينيقيا، ومن صلابة نوميديا. هو آخر القرطاجيين لا أول الجزائريين.
المراجع والمصادر: Saint Augustin, Les Confessions (traduction et notes diverses) – Encyclopædia Universalis, article « Augustin d’Hippone » – Le Monde de la Bible, n°245, “Carthage, la Rome d’Afrique” – St. Augustine’s College (UK): “Life and Legacy of Saint Augustine” (staugustinescollege.org) – Études historiques sur la langue punique dans l’Afrique romaine, Université de Carthage.

