يسبّب التواطؤ بين الشركات الكبرى والبنوك مشكلةً كبيرة أيضًا لأنه يقوّض التنافس، ويزيد احتمال الحصول على معلومات حساسة متعلّقة بالأعمال، ويتيح للشركات الكبرى التدخّل في طريقة تخصيص الائتمانات وفي قرارات الاستثمار. ووفق تقرير لمؤسسة كارينجي فانه لدى تونس “فائضٌ من المصارف”، إذ يتخطّى عددها 30 مصرفًا، وتسيطر ثلاثة مصارف مملوكة للدولة على 36 في المئة من حجم السوق، وتستحوذ خمسة مصارف كبرى (بما في ذلك المصارف المملوكة للدولة) على ما يزيد عن 50 في المئة من القطاع. ولكن، على الرغم من هذا العدد الكبير من المصارف، لا يتمتّع أيٌّ منها بالقدرة على تمويل مشاريع إنمائية كبرى في البلاد.
يُعَدّ إصلاح الإطار التنافسي من خلال تشريعات مكافحة الاحتكار أمرًا بالغ الأهمية لإضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد، وتحفيز نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة الابتكارية، ووضع حدٍّ لنفوذ الكارتلات التي تهيمن على القطاعات الاقتصادية الأساسية. وقد فشلت معظم هذه الكارتلات في التنافس على مستوى الأسواق العالمية، ما قلّص بشكلٍ أكبر الهامش المُتاح للشركات الصغيرة والمتوسطة كي تنمو وتتوسع. علاوةً على ذلك، إن العلاقات بين الدولة وقطاع الأعمال في ظلّ النظام السياسي الراهن تحمي التواطؤ القائم بين النخب البيروقراطية والشركات الخاصة الكبيرة وتشجّع على السعي وراء ضمان الريع وتسهم في انتشار الفساد.
لجأت الحكومة أيضًا، في مسعاها لتمويل العجز السنوي في ميزانيتها، إلى بيع السندات السيادية إلى المصارف التونسية. وقد تضاعف تقريبًا صافي مديونية الدولة للقطاع المصرفي خلال السنوات الخمس المنصرمة، فبلغ نحو 23.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بحلول نهاية العام 2023. ونظرًا إلى العوائد المغرية، والمخاطر الائتمانية التي تُعتبر منخفضة (مقارنةً مع الإقراض للقطاع الخاص)، والدعم الذي يقدّمه البنك المركزي من خلال توفير السيولة في أوقات الحاجة، رحّب القطاع المصرفي بالانكشاف المتزايد على الدين السيادي. وقد ازدادت القروض المصرفية الممنوحة إلى الدولة بنسبة 24.8 في المئة في العام 2023، فيما ازدادت القروض الممنوحة إلى القطاع الخاص بنسبة 2 في المئة فقط – وهو أدنى معدّل نمو يسجّله التمويل المصرفي للاقتصاد منذ عقدَين على الأقل.
تتيح الزيادة في الإقراض الداخلي للشركات الكبرى حماية نفسها. في الواقع، تولّد خمس شركات قابضة، معظمها شركات عائلية في قطاعات عدّة، أكثر من 60 في المئة من إيرادات الشركات الخاصة الكبرى في البلاد. وتساهم روابطها المباشرة مع المصارف في تعزيز قبضتها على الاقتصاد:
فهي تملك أسهمًا في سبعة مصارف من أصل اثنَي عشر مصرفًا مُدرَجة أسهمها في البورصة. وهذا يضمن لها الحصول بسهولة على خطوط الائتمان من المصارف، ويُقصي فعليًّا الشركات الصغيرة والمتوسطة من العملية. ويمنحها أيضًا ورقة ضاغطة سياسية على نظام سعيّد، ما يمكّنها من حماية مصالحها ويُجهض المحاولات الإضافية لتهميشها، مقابل ممارسة نفوذها على المصارف لتوفير التمويل الذي تحتاج إليه الدولة لتلبية متطلباتها التمويلية. ولكن هذا الأمر محفوفٌ بمخاطر جمّة، ففي حال تخلُّف الدولة عن السداد، ستكون التداعيات على القطاع المصرفي كارثية.