إستطاعت الدولة الأمنية في تونس أن تعمّر لما يزيد عن العقدين، وإن كانت قد بدأت في التمظهر قبل ذلك بكثير، فقد لقي بن علي زمن إغتصابه للحكم في تونس الدعم من القوى الإمبريالية العالميّة ومن المؤسسات المالية الدولية ليحوّل تونس تحت مسمّى “دولة الأمن والأمان” إلى سجن كبير ومرتعا لمصاصي الدماء، يكدّسون الأرباح ويعبّؤون الثروات في أرضيّة مجتمعيّة مستنزفة يسودها الرعب والقمع والإستكانة.. وأمام شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” ذات سابع عشر من ديسمبر، إستعملت قوى الردّة والنهب في المقابل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وشجعت على قيام برامج “حداثويّة” و”ديمقراطوية” و “إنتخابقرطيّة” لإحتواء ثورة المفقرّين والإنقلاب على شرعيّة الدمّ لضمان تواصل ظروف الاستنزاف الملائمة. وتمادت قوى الثورة المضادة في تغلغلها داخل المعركة السياسيّة في البلاد، فباتت تصنع الإرهاب بكلّ أشكاله الثقافيّ والإعلاميّ والجسديّ والأمنيّ، لتكريس نفوذها وتسرّع إعادة قبضها على منتزعاتنا المسلوبة
من ينفّذ ويستفيد من الاغتيالات السياسية ومخططات الإرهاب في تونس؟ للإجابة على هذا السؤال نحن مطالبون بالنظر أولاّ إلى قسمه الثاني بالوضوح الذي لا يختلف عاقلان عن تمييزه (على الأقل ستكون لنا قرائن وحجج ملموسة نرتكز عليها في التحليل): فعلى مستوى السطح، نجد اللعبة السياسيّة منقسمة إلى شقيّن، ونقصد بالشقيّن هنا حصانيّ الانقلاب على الثورة واستحقاقاتها ووأد مطالبها وهما حزب النهضة الحاكم والذي استحوذ على نصيب وافر من ماكينة التجمّع المنحلّ بأفراده وآلياته وموارده، وجبهة المضادة الحزبيّة التي تغوّل عليها الحزب التجمّعيّ الصريح والعائد بقوّة من الوراء تحت راية نداء تونس. هذين الحصانين الذيْن تراهن عليهما منظومة الحكم الفاسدة والتي يُراد لتونس أن تكون عليها في خضّم الموازنات السياسيّة الإقليميّة والسوق الاقتصادية العالميّة، هما بصدد الاستفادة مرحليّا واستغلال الإرهاب عمليّا كورقة ضغط ومناورة في سبيل البقاء في الحكم ولو بالقمع أو الوصول إليه ولو بالانقلاب.. أمّا على مستوى عميق من تفكيك الواقع التونسي اليوم، فإن المستفيد الأكبر من هذا العنف الدمويّ وهذا الرعب السائد هي قوى الثورة المضادة وبارونات النظام النيوليبيرالي في الداخل والخارج والتي تعمل بكلّ الأساليب المتاحة لها على النخر في جسد الوطن وإحباط حراكه الاجتماعي وإسقاط إيمانه وثقته بالقدرة الثوريّة والإنحدار به إلى مستوى الندم والنقمة والشلل.. و من المهمّ هنا الإشارة بصراحة إلى ماهيّة قوى الردّة التي لا تغدو أن تكون مافيا المال والسلاح والفساد الإداري الباقية على النظام. هذه المافيا هي مركز كل قرار، تخترق الدكاكين الحزبية والجمعيات والإدارة والجيش والنقابات والقضاء وتهيمن على المؤسسات الإعلامية. هذه المجموعة العميلة للمخططات الاستعمارية الخارجيّة التابعة لرأس المال العالمي، هي التي توفّر الحماية للمجرمين والقنّاصة والسرّاق وتتستّر على جرائم البوليس السياسي وعصابة الطرابلسية وتفريخات التجمّع وتواصل مسلسل ترهيب الشعب وتركيعه لإعادة التوازن للعبة النهب المتواصلة أبدا. كلّ هذه الوقائع تثبت أنّ ما يحدث اليوم ليس إلاّ اقتتالا بين أطراف هذه المافيا، لما يشقّها من صراعات تمركز واصطفاف سلطويّ مع من يحكم، لا تحسم عادة إلاّ بقوّة السلاح
إنّ الحرب على الإرهاب ليست حربا ضدّ قنبلة موقوتة أو جهاز تفجير تحلّ بخطّة تدخّل أمنيّ أو يضمن إنتهاءه حمار وطنيّ يتقرفص حوله جحوش السياسة جنبا إلى جنب جلاّدي الأمس وبوليس نظام النهب والعمالة، بل هي حرب تتعلق بالوضع الاقتصاديّ المتردّي والبطالة والتفقير الممنهج والتصحّر الفكري وفراغه من ثقافة وطنيّة مواطنيّة يروح ضحاياها إمّا شباب مفقرّ يكون صيدا سهلا أمام جماعات الموت المافيوزيّة وتجّار البشر، بإدعاءاتهم الجهاديّة الكاذبة أو بتقديم أموال تداعب أحلامهم. أو يروح حطبها شباب آخر عاش كأداة قمع في يد السلطة لعقود طويلة ويُستعمل اليوم وقودا للصراع القائم بين الأطراف المافيوزيّة نفسها تحت مسمّى كاذب آخر هو “خدمة الوطن”
رحمة البلدي

