أطلقت الحكومة حملة وطنية تهدف إلى استرجاع أكثر من 400 ألف حساب بنكي غير نشط لم تُسجّل فيها أية حركة مصرفية منذ ما لا يقل عن 15 عامًا. تأتي هذه الخطوة تنفيذًا لما ورد في قانون المالية لسنة 2025، بعد إدخال تعديلات تشريعية تمكّن وزارة المالية من التصرف في هذه الحسابات، سواء كانت جارية أو ادخارية.
تدابير قانونية غير مسبوقة
ووفقًا للتعديلات التي تمّت المصادقة عليها مؤخرًا، بات لخزينة الدولة الحق في تولّي إدارة هذه الحسابات بعد انقضاء فترة 15 عامًا من السكون البنكي، دون تسجيل أية عمليات من قبل أصحابها. وتشمل هذه الإجراءات الحسابات البنكية المفتوحة لدى مختلف المؤسسات المصرفية العامة والخاصة، سواء تعلّق الأمر بأفراد أو شركات.
وأكد الخبير المالي سفيان الوليّمي، في تصريح لصحيفة لابراس، أن هذه الآلية “ليست ابتكارًا تونسيًا”، بل إنها مستوحاة من أنظمة مطبّقة في دول أخرى، أبرزها فرنسا، حيث تُحوّل الحسابات البنكية غير النشطة إلى ما يُعرف بـ**”صندوق الإيداع والأمانات” (Caisse des Dépôts et Consignations)**، وهو ما يعادل في النموذج الإيطالي صندوق الودائع والقروض.
فرصة جديدة للاسترجاع
ورغم أن الدولة تستعد لاسترجاع السيطرة على هذه الحسابات، فإن القانون يضمن لأصحابها أو ورثتهم الحق في استعادة أموالهم خلال فترة إضافية لا تتجاوز 15 عامًا، تبدأ من تاريخ نقل الأموال إلى الخزينة، وهو ما يُشكل فرصة قانونية تحفظ الحقوق وتقلّل من الطابع الزجري للإجراء.
غياب أرقام رسمية… وتقديرات بمئات المليارات
حتى الآن، لم تُقدَّم معطيات رسمية دقيقة بشأن القيمة المالية الإجمالية للحسابات البنكية غير النشطة في تونس، لكن بعض التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن المبالغ قد تصل إلى مئات ملايين الدنانير، وربما أكثر.
وفي هذا السياق، كانت بعض البنوك قد نشرت قوائم بـ140 ألف حساب راكد تخصّ أفرادًا وشركات، وهي خطوة تمهيدية للانطلاق في عملية الفرز والتحويل.
النموذج الفرنسي: مرجع عملي
وتُعد التجربة الفرنسية مرجعًا مهمًا لفهم أبعاد القرار التونسي، حيث قامت فرنسا، وفق بيانات رسمية، بنقل أكثر من 3.7 مليار يورو من 6.5 ملايين حساب راكد إلى صندوق الإيداع والأمانات، مع السماح لأصحابها بالمطالبة باسترجاع الأموال ضمن آجال قانونية.
ما بين حقوق الأفراد ومصلحة الدولة
تثير هذه الخطوة نقاشًا حول التوازن بين حماية الأموال الخاصة وضرورة تحريك الموارد المجمدة التي قد تسهم في تقليص العجز المالي وتغطية نفقات عمومية ملحّة. ويدعو مختصون إلى أن تكون العملية مصحوبة بحملة توعوية شاملة، وضمان الشفافية في كيفية التصرف في الأموال المحوّلة، مع التأكيد على ضمان حقوق أصحابها الأصلية أو الورثة الشرعيين.
ويرى محللون اقتصاديون أن هذا القرار، وإن كان موجّهًا نحو تحسين إدارة الأموال الراكدة، إلا أنه قد يُحدث تغيّرات في سلوك المودعين على المدى المتوسط، خاصة من حيث مراقبة نشاط حساباتهم وتجنّب تركها دون حركة لفترات طويلة. ومن المرجّح أن تدفع الحملة العديد من الأفراد والعائلات إلى إعادة النظر في كيفية إدارة حساباتهم البنكية، أو اتخاذ خطوات لتوثيق الوصاية والوراثة تحسّبًا لأي إجراء مشابه مستقبلاً.
أما على مستوى القطاع البنكي، فقد تواجه بعض المؤسسات تحديات إجرائية وتقنية مرتبطة بالتدقيق في الحسابات القديمة وتحديد حالتها القانونية بدقة، خصوصًا تلك التي تعود لأشخاص متوفين أو مجهولي الإقامة. ورغم أن هذه الحسابات لا تُستخدم في الدورة الاقتصادية اليومية، إلا أن سحبها من دفاتر البنوك قد يُعيد تشكيل التوازنات المالية الداخلية لبعض المؤسسات، خاصة الصغيرة منها.
وفي المقابل، يعتبر البعض أن هذه الخطوة قد تساهم في تعزيز ثقة المواطنين في الشفافية المالية للدولة، خاصة إذا تم توضيح وجهة استخدام هذه الأموال، وربطها ببرامج اجتماعية أو استثمارات تنموية.

