الرئيسيةقراءة اقتصادية لنتائج الانتخابات البلدية

قراءة اقتصادية لنتائج الانتخابات البلدية

جاءت نتائج الانتخابات البلدية التي عاشتها بلادنا يوم الاحد 6 ماي 2018 برسائل واضحة الى السلطة الحاكمة والاحزاب السياسية بصفة عامة حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة ٪35.65 حسب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فيما استقطبت القائمات المستقلة أكبر عدد من الناخبين لتحتل المرتبة الأولى بـ٪32.65 من الأصوات قبل حركة النهضة التي استقطبت ٪28.56 من الأصوات ونداء تونس الذي جاء في المرتبة الثالثة بـ٪21.22 من الأصوات.
لقد كشفت هذه النتائج الحجم الحقيقي للأحزاب السياسية في بلد غابت عن مكوناته السياسية الحلول الكفيلة بإخراج البلاد من أزمة مالية خانقة طال أمدها وتؤكد كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية على استفحالها وآخر هذه المؤشرات نسبة التضخم المسجلة في شهر أفريل الماضي التي سجلت ارتفاعا حسب المعهد الوطني للإحصاء لتبلغ ٪7.7 مقابل ٪7.6 في شهر مارس و٪7.1 في شهر فيفري و٪6.9 في شهر جانفي 2018.
وبالنظر الى تباطؤ نمو الناتج المحلي الاجمالي وتواصل ارتفاع نسبة التضخم فقد دخل الاقتصاد التونسي في حالة ركود تضخمي… حالة تنبئ بمزيد تدهور كل المؤشرات في ظل مواصلة حكومة الشاهد هرولتها الى الأمام وعدم مصارحة الشعب بحقيقة الوضع المالي الذي يتسم بتواصل عجز ميزانية الدولة وتفاقم عجز الميزان التجاري وتفاقم العجز الجاري وارتفاع المديونية الخارجية وتراجع الاحتياطي من العملة الصعبة وتواصل انزلاق الدينار، وتواصل ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع نسبة التضخم…
وفي أول رد فعل له بعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات البلدية أعلن الشاهد عن ضرورة «الوقوف عند نسبة المشاركة ـ التي كانت ضعيفة ـ داعيا المكونات السياسية الى استيعاب الرسالة وتغيير الخطاب السياسي وتطويره».
ويبدو من خلال هذا التصريح أن الشاهد أراد استغلال الفرصة لتسجيل حضوره ومواصلة استبلاه الشعب التونسي عندما دعا الفاعلين السياسيين بما في ذلك حكومته الى تغيير الخطاب السياسي وتطويره متجاهلا مسؤولية الخيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لحكومته والتي تقف وراء تدهور المقدرة الشرائية وتدهور منظومة الانتاج وتفاقم تدهور التوازنات المالية الداخلية المرتبطة بعجز ميزانية الدولة والخارجية المرتبطة بعجز الميزان التجاري، وتفاقم البطالة وتراجع نمو الناتج المحلي الاجمالي وتواصل ارتفاع نسبة التضخم…
الشاهد يعلم علم اليقين أن هذه المؤشرات التي تعكس فشل حكومته في إدارة الأزمة وعدم الاستجابة لتطلعات الشعب كانت محددا في مشاركة شريحة واسعة من عدمها في الانتخابات البلدية باستثناء المنضبطين حزبيا الذين يقودهم الولاء الحزبي على حساب نجاعة الأداء السياسي والقدرة على انقاذ البلاد وخدمة المواطن والمصلحة العليا للبلاد.
وبعيدا عن التصويت الموجه الذي قضى على نجاعة الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، فقد تحرر التونسي في أول انتخابات بلدية بعد الاستقلال من قيود التوجيه والتوظيف ليعبر عن رأيه وبصفة مباشرة ودون وسطاء ومن خلال المقاطعة بخصوص الوضع العام بالبلاد بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية.
لقد كان صوت المقاطعين للانتخابات وتقدم قائمات المستقلين عن قائمات الاحزاب السياسية مزعزعا هذه المرة بما لا يدع مجالا للشاهد لاستبلاه المواطن التونسي.
ان الخلل لا يكمن في الخطاب السياسي كما ادعى الشاهد بما يستوجب التطوير ولكن في الخيارات والسياسات التي أقرتها حكومة الشاهد والرامية كلها الى مزيد تفقير الطبقة الوسطى والقضاء على ذوي الدخل الضعيف والقضاء على منظومة الانتاج وعلى المكتسبات الاجتماعية… خيارات أدت كلها الى دخول الاقتصاد التونسي في حالة ركود تضخمي يصعب الخروج منها باعتبار ان الاجراءات التي تم اتخاذها لمواجهة تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم ساهمت هي ذاتها في تعميق الأزمة.
لقد اختارت حكومة الشاهد التقيد بوصفة صندوق النقد الدولي لمعالجة الأزمة المالية الخانقة وهي وصفة تقليدية تؤدي الى نتائج عكسية وهو ما يثبته يوميا تدهور الوضع الاقتصادي والمالي في بلادنا.
ففي مجال الضغط واحتواء التضخم انصاع البنك المركزي الى تعليمات صندوق النقد الدولي من خلال الاقتصار على اتباع معالجة نقدية للتضخم والتحرك من خلال آلية السياسة النقدية المتمثلة في الترفيع في سعر الفائدة المديرية للبنك المركزي للضغط على الطلب. الا أن تواصل ارتفاع نسبة التضخم للشهر الرابع على التوالي كشف محدودية هذه المعالجة وخطورة تداعياتها على الاستثمار في اتجاه ضرب منظومة الانتاج وتكريس تباطؤ نمو الناتج المحلي الاجمالي بما أدى الى دخول الاقتصاد التونسي في حالة ركود تضخمي، في الوقت الذي كان أمام هذه الحكومة التحرك على واجهات أخرى للضغط على الاسعار من خلال ضرب الاحتكار وتأهيل مسالك التوزيع وتحفيز الانتاج وحماية المنتوج التونسي والحد من التوريد ومعالجة الاقتصاد الموازي والتقليص من الأنشطة الريعية ومحاربة الفساد.
كما أنه في مجال معالجة تفاقم العجز التجاري تقيدت حكومة الشاهد بوصفة صندوق النقد الدولي من خلال الانخراط في ضرب العملة الوطنية وتخلي البنك المركزي عن حمايتها من خلال اتباع سياسة صرف مرنة تترك الدينار في انزلاق متواصل بدعوى التشجيع على التصدير واكساب المنتوج التونسي قدرة تنتافسية أعلى في الأسواق الخارجية.
ومرة أخرى لم تحقق هذه الوصفة ما ادعاه صندوق النقد الدولي من تحسين في التوازنات المالية الخارجية لتسجل تونس أدنى مستوى للاحتياطي من العملة في ظل تراجع الصادرات وتفاقم التوريد في الوقت الذي كان امام حكومة الشاهد حلول اخرى للسيطرة على التوازنات المالية الخارجية من خلال السيطرة على التوريد وتفعيل اجراءات الحماية الظرفية (les clauses de sauvegarde) بما يساهم في دعم المنتج الوطني وتدعيم منظومة الانتاج وخلق مواطن الشغل وتدعيم الموارد الجبائية لميزانية الدولة.
لقد تسببت خيارات حكومة الشاهد المستندة لوصفات صندوق النقد الدولي في تعميق حالة الركود التضخمي التي دخل فيها الاقتصاد التونسي، وضع لا يمكن تغييره بتغيير الخطاب السياسي وتطويره ولكن بالقطع مع سياسات وخيارات صندوق النقد الدولي، أمر غير مطروح على حكومة الشاهد ومطروح على شريحة من الشعب التونسي عبرت عنه في الانتخابات البلدية الأخيرة بطريقة واضحة وبعيدة عن القراءات والتأويل عندما رفضت منح صوتها لتوظيفه من قبل احزاب سياسية ـ كما كان الشأن في الانتخابات التشريعية لسنة 2014 ـ في ضرب المقومات الأساسية للاقتصاد الوطني من خلال المصادقة على مشاريع قوانين على غرار القانون الأساسي للبنك المركزي وقانون الاستثمار واتفاقيات القروض الخارجية …
لقد منح الشعب التونسي في انتخابات 2014 الشرعية الانتخابية لحكومات تمتعت بثقة نواب انتخبهم بصفة مباشرة من أجل حماية السيادة الوطنية والقطع مع الاقتراض الخارجي وعدم اللجوء الى صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية والاتحاد الاوروبي وتأمين الأمن والرفاه الاجتماعي في اتجاه القطع مع سياسية «الأمر الواقع» والحلول السهلة التي ادت الى ما نعيش على وقعه اليوم في ظل ركود تضخمي يصعب الخروج منه.
لقد كانت النسبة الضعيفة للمشاركة في الانتخابات البلدية رسالة مضمونة الوصول من قبل من قاطع الانتخابات للسلطة السياسية والاحزاب الحاكمة عن رفضها الارتماء في احضان صندوق النقد الدولي والاتحاد الاوروبي، الا انه وكعادة من هم في السلطة دائما، برّأ الشاهد حكومته من مسؤولية هذا الوضع المتدهور لينكب على تطوير خطابه السياسي في اتجاه مزيد من الهروب الى الامام طالما وان حكومته تعمل في اطار توافق سياسي لا يولي اهمية لكل صوت مخالف.

**** بقلم جنات بن عبدالله المتخصصة في المجال الاقتصادي

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!