صدر مؤخرا كتاب لعالم السياسة فوكويما موسوم بـ”هوية”، أفردت له جريدة “إلبايس” أربع صفحات من دراسة تقديمية قام بها مانويل كروث. وكان ترجم الكتاب إلى الإسبانية أنطونيو غارسيا مالدونادو 2019. يقع الكتاب في 206 ص بسعر 19.95 أورو.
تساءلت الدراسة التقديمية عن التموقع الذي اتخذه هذه المرة صاحب نهاية التاريخ من الأحداث الاقتصادية الدولية، حيث ينذر بنمو حركات قومية شعبوية واستبدادية بين الديمقراطيات الموحدة في العالم وتأثيرها على مفاهيمه المروجة في مشروعه سابق الذكر. هنا الترجمة الكاملة لهذه الدراسة.
حين يفتح المرء هذا الكتاب لفوكوياما، بمجرد ما يشرع في القراءة يصطدم أولا بالتأكيد الحرفي الذي هو نفسه “لن يكون قد كتبه لو لم يكن دونالد ترامب انتخب رئيسا في نونبر 2016”. لا يمكن تأسيس تيار أساسي من المجاملة تجاه هذا الكاتب.
من الممكن أن ردة الفعل هاته ستترك أي قارئ لم يكن قد اهتزت عنده بالكل الصورة التي رافقت فوكوياما أواسط 1989 عند صدور كتابه “نهاية التاريخ”؛ وكما يتذكر الكثيرون، يومئذ، أنه كان موضوع عدد غير محدود من الانتقادات، جانب منها قاس، إضافة إلى أنها مضللة، في حدود الانكباب على سوء تأويل كتابه، إذ قولوه ما لم يقله.
هكذا وصلنا إلى أفضل ما في العوالم الممكنة، أي من الآن فصاعدا لا يمكن أن يحدث جديد.
في الواقع ما أكده فوكوياما لم يكن شيئا مفارقا، ذلك وطيلة تلك العشرية، والتي لا يجب أن تنسى، تتعلق بالتفكيك المتواصل للإمبراطورية السوفيتية، ذهب كثير من الكتاب، عن خطأ، وبعضهم تقدمي، إلى معرفة: أن الإنسانية لم تحقق سوى أن تذهب أبعد من نموذج نظام حياة اجتماعية بوجهين: الأول يتمثل في اقتصاد السوق، والثاني في ديمقراطية ليبرالية، ربما لأن قطاعا من اليسار لم يكن قد هضم الفشل الواضح للاقتراح التحرري الطموح ورسم حدوده كليا طيلة القرن العشرين، وهو الفشل الذي اتضح بالضبط خلال السنة التي أصدر فيها كتابه مع سقوط جدار برلين، يختزل المسألة بصيغة جد مختصرة وبشكل مبسط: ربما، في بعض الوقت، كان مع كاتبنا الحق.
أكيد أنه بعد ذلك تخلى عن الديمقراطية ولكن ليس لأن الديمقراطية الليبرالية ستمر من مرحلة عليا، ولكن لأن تعايشها الخاص أصبح بالتأكيد مهددا.
إن السيناريو العالمي، دون ريب، قد تغير؛ تلك الموجة من الديمقراطية التي تضاعفت إلى ثلاث (من 35 إلى حوالي 120..رقم الديمقراطيات الانتخابية في العالم برمته مع مطلع الستينيات إلى 2000) أدت إلى ما أسماه لاري دايموند الركود الديمقراطي. وفعلا هذا الثنائي الذي ارتسم في الأفق ليس المتخيل بالنسبة لليبراليين الأكثر كلاسيكية، هذه ديمقراطية ليبرالية تسير جنبا إلى جنب مع اقتصاد السوق.
إن التهديدات الموجهة إلى هذا النموذج آتية إلى الديمقراطية انطلاقا من عدة جبهات؛ ففي المقام الأول الجبهة الاستبدادية التي تقترح نموذجا للإنتاج الرأسمالي بإنتاجية مهولة مزدرية بذلك أدنى المعايير الديمقراطية.
إن تسمية هذا الثنائي الجديد الرأسمالية/ الاستبداد، الذي يهددنا، والذي لن ينجو منه أحد، هو الصين. لم يفاجأ فوكوياما بذلك، ولا بالاستبداد الروسي الجديد؛ إن ما فاجأه وأزعجه حقا، علاوة على سقوط الرقم الشامل للديمقراطيات في العالم، ازدهار الحركات القومية الشعبوية والاستبدادية في قلب الديمقراطيات المتحدة.
بيد أن فوكوياما، ومن جديد يبدو على صواب ولو لمدة، لأنه من الصعب مجاراته طيلة خطابه حيث يعمل على استنطاق الهيغيلي الذي يسكنه منخرطا في الأطروحة التي دفعت بالتاريخ الأساسي إلى الصراع من أجل نوع من الاعتراف.
فضلا عن ذلك، فحسب وجهة نظر فوكوياما، وفي جزء كبير منها، يتوجب علينا تصديق أن الإنتاج يتحقق بسبب التحفيزات الاقتصادية، إنما في الواقع هي استجابة لطلب الاعتراف، وهو السبب الذي لا يمكن تحقيق الرضا عنه فقط بواسطة الوسائل الاقتصادية.
نجيب وذكي كما هو فوكوياما لا ينفي وجود مشاكل مادية محددة، غير أنه لا يقلل من أهميتها، مبطلا تأثيرها إلى حدود بعيدة؛ فلا يدعي التشبث بكون أن النظام العالمي الليبرالي قد نفعنا جميعا. كذلك فإن اقتصاد السوق يعرض أوجه القصور، ومع ذلك يتهرب من كل هذه المواضيع ليدفع بها إلى ميدان الهويات المهينة.. لكن الذي يجهد فيه متحايلا عليه أحيانا هو سؤال غير قابل للتحايل: معرفة الخاصية غير العادلة بنيويا من طرف لامساواة النظام الذي فيه يعيش كل سكان المعمورة اليوم.
لا يتعلق الأمر إذن بوضع موضع الريب وجود سلسلة من الأشواق الراسية في أعمق الأعماق الروح الإنسانية؛ يتعلق الأمر بتحديد الاستقراء الذي انتهى إليه فوكوياما حين صنف المقاومة من أجل الاعتراف بالمطالب لأي نظام يتأسس.
لأنه وبالصيغة ذاتها التي يمكن أن يقول بها في عدة مناسبات المطالب ذات المظاهر الاقتصادية تقبع، في الواقع، تطلعات ذات صلة، دعنا نقول بالهوية القومية، ليس أقل تأكيدا من تلك التي تقدم كمطلب قومي وراءه تقبع حالة لطبقة ما، ولا أعتقد أننا بحاجة إلى أمثلة لأننا نحن منها.
بخلاصة، ربما ليست المسألة مسألة تشبيك عند التحليل.. ما هي الأشواق الأصيلة المستوطنة في قلوب المواطنين الصغيرة، وإنما في محاولة بلورة سياسات عمومية ناجعة ضد اللامساواة، ولصالح رفاه الأغلبية، الشيء الذي يفترض أن الجميع لا بد أن يتفق بصدده، ومن جملتهم فوكوياما؛ طبعا هو ضمنهم.

